كانت لها براءة الوردة حين تفتحت على الدنيا أول مرة، لم يكن جمالها مألوفا بين بنات قريتها، شعر أسود فاحم منسدل بحرية خلف ظهرها يكاد يلامس عقبيها، عينان خضراوان أشد لمعانا من خضرة حقل حنطة أطل برأسه على الأرض، وجه كاللبن الرائق ذو تقاسيم منغمة فى لحن ممتع غير مألوف فى الناحية ولا فى المركز كله، يبدو أن القدر صنعها من تراب خاص.. لكن ..وأه من لكن تلك، كانت رجاء بنت فلاحة جاهلة، لا تعرف فى حياتها غير أعمال الدار من كنس وخبيز ورعاية البط والأوز والدجاج والغنم وبضع بقرات فى دار عمها إسماعيل الذى فتح الله عليه من وسع، مات أبوها صغيرا وتركها مع أمها أمينة الشابة الجميلة وهى بنت تسع سنوات فى كنف عمها البخيل، حاول العم مع الأم أن يراودها عن نفسها ويتزوجها، تمنعت وأبت بإصرار كارهةً بخله ووقاحة نظراته، ربَّت الأم أمينة ابنتها رجاء على الخوف الرهيب من العيب، الكلام مع الأولاد عيب، النظرة عيب، سمع الأغانى فى الراديو عيب، الرقص فى أفراح بنات العم عيب، كان العيب هو هاجس رجاء فى روحها ومجيئها وهى لا تكف عن طرده كما تطرد الشياطين باسم الله.. حافظت الام على ابنتها مثل حارس لا يغفل ولا ينام، فنمت رجاء وهى لا تعرف عن العالم إلا أقل القليل، ومن جرؤ من شباب القرية على التقرب منها أو التحدث إليها ولو بكلام عادي، فله الويل وسواد الليل، ألفاظها دبش تقذف به فى كل اتجاه..ولا ترد إلا باسم الأم: بطل يا ابن فتحية الكلام ده وأمشى من هنا، لم نفسك شوية يا ابن خضرة وروح على داركم أحسن.. وهكذا. اقتربت رجاء من السادسة عشرة ولم يجرؤ ولا شاب من القرية على خطبتها: هو فيه واحد يقدر على لسانها.. قلقت أمها عليها ولم تعرف ماذا تفعل.. ذات صيف بعيد هل أحمد على القرية زائرا بعد سنوات انقطاع، قرر أن يغير طعم الصيف من بلاجات الإسكندرية إلى ريف الغربية، ونزل عند خالته نفيسة، وخالته متزوجة من عبد الحميد شقيق أمينة الكبير، ولا يمكن أن يمر يوم دون أن تقعد نفيسة وأمينة فى صحن دار عبد الحميد وهات يا كلام عما جرى فى البلد من جواز فلانة وزعل علانة وخناقة ترتانة.. رأت أمينة أحمد طالب كلية الحقوق وكانت تعرفه منذ كان تلميذا فى الابتدائى قبل انتقال أسرته للعيش فى القاهرة، نادت عليه قالت له أمام خالته نفيسة: عندى لك هدية..أجوزك بنتى رجاء.. آصيغها «ذهب» من فوقها لتحتها وأجيء بها لحد باب بيتك. كانت رجاء واقفة على باب الدار فى جلابية ملونة وطرحت سوداء، انكسفت وتراجعت.. ضحك أحمد من النكتة، وجامل الست أمينة: فضل ورضا من ربنا. أعجبه جمال رجاء الفتان وبراءتها التى لها نصاعة الفجر.. جاءت رجاء فى اليوم التالى ب»صنية» عليها أرز معمر ولبن حليب وعسل نحل وفطير مشلتت.. داعبها قائلا: يا بخت من يتزوجك. ردت عليه متجهمة: احترم نفسك يا مصراوى أنت. قالت له خالته نفيسة: لا تغضب هى غشيمة فى كلامها. خمسة أسابيع قضاها أحمد مع خالته، كل يوم تأتى له رجاء باللبن الحليب الطازج، يتناوش معها بالكلام وهى ترد بالدبش المعتاد دون أن تبتسم. عاد أحمد إلى القاهرة..ونسى أمر رجاء مجرد فتاة جميلة فى الخيال مثل السهر على ضوء القمر تحت شجرة التوت. بعد عام وكان فى ليسانس الحقوق حين دخلت عليه خالته نفيسة قادمة من القرية وفِى يدها رجاء، وقالت:شبكة رجاء بعد أسبوعين، وسوف نشتريها من الحسين. نظرت إليه رجاء نظرة طويلة لم يفهم معناها. خرجت خالته ورجاء، وجلس فى حجرته يذاكر.. فى المساء دخلت عليه رجاء وحدها وأغلقت الباب، ارتمت فى حضنه ثم خرجت دون أن تنطق بكلمة.