محمود الجندى، بالنسبة لى ليس مجرد فنان، بل يجسد داخلى حالة شخصية من الشجن، ذلك الشجن الذى يرتبط عادة بالماضى وطعم الناس والأحداث والأماكن. وسأفسر لك حالا. لكن هناك شجنا يرتبط أيضا بالمستقبل والقلق بشأنه. فالجديد هنا أن الفنان الكبير غاضب.. حزين.. متألم.. لشعوره بعدم احترام اسمه ومكانته فى مسلسله الأخير «رمضان كريم».. حتى إنه أعلن اعتزاله!. سواء قرر الجندى التراجع عن الاعتزال أم لا، فإن قراره جاء كمفجر أخير لمشاعر عميقة من الغضب الكامن لدى جيل من الفنانين.. أصبح يشعر بالاغتراب.. كما ستعرف هنا بالتفاصيل!. محمود الجندى، مازال بالنسبة لجيلى من المشاهدين ذلك الشاب «الجدع».. «محمود» زوج ابنة «بابا عبده».. خفيف الظل جميل الابتسامة.. «عمرو» الطالب الباحث عن «تقليب قرشين» من عمه «أبو العلا البشرى».. ابن البلد المحب لوطنه.. «مصطفى» الذى أبلغ عن شقيقه «جمعة الشوان» عندما شك فى خيانته للوطن.. فكيف لا يتألم جيلٌ لألم نجم جميل؟. وبالنسبة لى شخصيا، محمود الجندى هو «الممثل» الذى كنت أفرح برؤيته «فى الحقيقة» وأسلم عليه وأنا صغير، عندما أزور جدتى بشارع الجامع الإسماعيلى فى حى السيدة زينب. حيث كان منزل والديه فى شارع يعقوب المتقاطع مع شارع جدتى. وعزز حبى له أحاديث خالى العزيز هشام عبده عندما كنت أسأله عنه. كنت أشعر أحيانا بالتشابه بين طريقة كلام وضحك خالى هشام ومحمود الجندى.. لعله طعم الأماكن الذى ينعكس على البشر. كنت أراقب «الجندى» وهو يسير فى الشارع.. يسلّم على السائرين وأصحاب المحال.. هى ذات ابتسامته وتعبيرات وجهه.. يبدو أنه لا يمثل أصلا.. بل يستخرج ملامح أدواره من جنبات شخصيته الطبيعية.. وهذا سر العبقرية. الفنانة الراقية وفاء صادق، كنتُ قد عرفتها «فيسبوكيا» بعد إشادتى منذ عام بمسلسل «سقوط حر»، الذى أدت فيه ببراعة دور الطبيبة النفسية. وبعد خبر اعتزال الجندى لإحساسه بعدم التقدير، كتبت هى على «فيسبوك» كلمات، لها من اسم صاحبتها نصيب؛ «وفاءٌ صادق».. استأذنتُها فى نقل كلماتها فأذنت.. والآن أتركك مع هذا الواقع الأليم.. مع جنون الفن وشجونه. قالت وفاء: «محمود الجندى عايز يعتزل.. وقبله توفيق عبدالحميد.. وقبلهم سمية الألفى.. وقبلها إيمان الطوخى.. وناس تانية كتير كلهم اعتزلوا لنفس السبب.. الناس والزملاء عمالين يهللوا ويقولوا له: لا خليك بنحبك.. أما القائمون على الصناعة فهل سمع أحد صوتهم؟.. لا.. ليه؟.. علشان مابقتش فارقة ممثل كويس من ممثل وحش.. عايز تشتغل بالقانون الجديد للشغلانة اللى بقى خالى من الفن والاحترام؟.. اشتغل وانت ساكت.. مش عايز؟.. فيه ألف غيرك يتمنى.. حتى لو مش ممثل أصلا.. المسئولون عن صناعة الفن باعوا القضية من أجل حفنة دولارات.. حزينة وعندى اكتئاب». أيدتها الفنانة بشرى قائلة: «أنا حاولت مع توفيق عبدالحميد قبل كدة وقلت له: مقامك سيكون محفوظا لأني المنتجة لكن مفيش فايدة.. الأخلاق الدخيلة قضت على الأخضر واليابس في الصناعة». وعلقت المنتجة الكبيرة ناهد فريد شوقى قائلة: «عنده حق.. الواقع مقرف يُفقد الفنان الحقيقي رغبته في الاستمرار».. وعندما سألتها وفاء صادق عن سر اختفائها ردت ابنتها رشا المرشدى: «ماما شبه معتزلة.. اعتزال غير معلن لنفس الأسباب». وفسّر السيناريست حسام موسى المسألة بقوله إنه طالما ظل الوكيل الإعلاني هو المتحكم، فلا تسأل عن الأصول والمهنة والتقدير، أما قطاعات إنتاج الدولة فقد ضاعت. لذا فنحن نعيش زمن دراما الإعلانات، «منتهى الرخص»!. أما كبرى المفاجآت فجاءت متمثلة فيما كتبه الفنان الكبير عبدالعزيز مخيون، الذى يُفترض أنه مازال يعيش فى أجواء نجاح مسلسل «الجماعة 2» وأدائه المتفرد لشخصية مرشد الإخوان، لكنه كتب يقول: «شجعنى تفكير الزميل العزيز محمود الجندى على التفكير كذلك فى الابتعاد وليس الاعتزال.. بعد التجربة الأخيرة المريرة فى مسلسل الجماعة.. وماعانيته من انعدام المهنية وضياع تقاليد المهنة وانعدام المنهجية ونقص الخبرة.. بحيث أصبح الطريق ممهدا للدخلاء بلا منازع.. فقد اختلط الحابل بالنابل ولا تجد من تتفاهم معه لضبط إيقاع العمل فى البلاتوه.. تعرضت لتصوير لقطات صغيرة قصيرة فى وقت يتجاوز أى قياسات عالمية أو عربية.. والمشاهد الحركية قليلة الحوار تعاد وتتكرر أكثر من أربعين مرة.. ويستمر هذا العبث إلى ساعات متأخرة من الليل وحتى الصباح.. لا أيها الزملاء ..لا تنظروا إلى هذا على أنه عادى.. أين صحة الفنان؟ أين طاقته الإبداعية؟ أين قوانين العمل المنظمة للمهنة؟.. نجاةٌ بالنفس من جحيم الدخلاء ومن صبيان المهنة.. لذا نفكر جديا فى الابتعاد»!. أخيرا.. بعد كل ما سبق.. فإننى لا أعرف حقا بماذا أعلق.. لكن إن كان لا بد لى من نصيب فى الألم.. سأصارحك أولا.. أحب الكتابة فى الثقافة والفنون أكثر كثيرا من السياسة.. فالأفكار هى التى تُغيَر العقول وتقود بحق إلى النور.. لكننى عندما أقرأ الآن هذه الكلمات لأهل صناعة الفن أنفسهم.. وألمس إحباطهم.. فإننى أغوص دون شك فى إحباط جديد.. لأتساءل: ماذا جرى لنا؟ وما أوصلنا إلى هذا؟.. من يقود إذن قاطرة التغيير؟.. أين إنتاج الدولة فى الفنون؟.. وإلى متى سيظل الوكلاء الإعلانيون هم المتحكمون؟.. هى أسئلة حبلى بالألم والشجن.. لكنه شجن لأجل المستقبل لا الماضى.. لذا فإننا سنظل نتكلم ونصرخ وننادى.. سنظل نسأل.. فى انتظار الأجوبة!. [email protected] لمزيد من مقالات محمد شعير