بعد صبر طال لما يقرب من السبعة أشهر «انتفض» الرئيس فلاديمير بوتين ليؤكد ان «صبر روسيا قد نفد»، وان الوقت قد حان للرد على ما وصفه ب«الوقاحة» التى قال انه لن يسمح بها فى حق بلاده. اعلنها بوتين فى ختام زيارته الاخيرة لفنلندا قبل عودته الى موسكو ليتخذ قراره «الجوابى الاستباقى»، حول طرد 745 من اعضاء السفارة الامريكية ومصادرة الممتلكات الامريكية ردا على طرد 35 من دبلوماسييه فى نهاية العام الماضي. واستباقا لتوقيع نظيره ترامب على قانون الكونجرس بشان العقوبات ضد روسيا, وكان الرئيس بوتين أكد انه سبق وحذر من ممارسات الولاياتالمتحدة فى خطابه الذى ألقاه فى مؤتمر الامن فى ميونيخ فى فبراير 2007 ، معيدا الى الاذهان ما قاله حول عدم قبول هيمنة القطب الواحد ومحاولات قوى بعينها لاحتكار القرار الدولى وسعيها نحو فرض قوانينها على الاخرين. ونذكر ان بوتين عاد وأكد فى اكثر من مناسبة عن استعداده لبناء علاقات تقوم على التعاون والتكافؤ مع كل القوى الدولية وفى مقدمتها الولاياتالمتحدة شريطة التكافؤ واحترام السيادة الوطنية وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للاخرين. لكن ما جرى من احداث خلال السنوات الاخيرة دفع بالعلاقات الروسية الامريكية الى نفق مظلم، ولا سيما بعد اعلان الادارة الامريكية السابقة صراحة انها تستهدف «الاطاحة بنظام بوتين». وما ان ظهر «خيط نور» فى نهاية النفق المظلم، بوصول دونالد ترامب الى سدة الرئاسة فى البيت الابيض الذى كانت موسكو تعلق عليه الكثير من آمالها، حتى عادت الغيوم لتخيم على علاقات البلدين، بعد تناثر الاتهامات ضد روسيا بتدخلها فى الانتخابات التى حملته الى سدة الحكم. ورغم «عبثية» هذه الاتهامات التى تتضمن فى طياتها اعترافا صريحا بعجز كل المؤسسات الامريكية ذات التاريخ «العتيد» عن مواجهة «الاختراق الروسي»، وفشلها فى تقديم الدليل على تدخل موسكو الذى تقوم الولاياتالمتحدة بمثله ضد كل بلدان العالم بما فيها روسيا، فقد اتخذها الكونجرس «تكئة» لاقرار قوانينه التى تقضى بتشديد العقوبات ضد روسيا وايران وكوريا الشمالية، الى جانب استهداف الكثيرين من أصدقاء بوتين وأركان نظامه فى محاولة لزعزعة استقرار البلاد والاطاحة بنظام بوتين، وهو ما يتكرر الحديث عنه منذ اندلاع الازمة الاوكرانية فى عام 2014. وقد سارعت وزارة الخارجية الروسية صبيحة الجمعة الماضية باعلان قراراتها التى تقول بطرد 745 من العاملين فى سفارة واشنطن فى موسكو وعدد من قنصلياتها فى سان بطرسبورج ويكاتيرينبورج وفلاديفوستوك، فى اطار مبدأ «المعاملة بالمثل»، الذى يقول بتخفيض عدد الدبلوماسيين الامريكيين فى روسيا الى 455 اى بما يساوى عدد الدبلوماسيين الروس فى الولاياتالمتحدة، بعد قرار الادارة الامريكية السابقة بطرد 35 منهم فى نهاية ديسمبر من العام الماضي. ونص البيان كذلك على مصادرة عدد من المبانى التابعة للسفارة فى موسكو ردا على مصادرة واشنطن لاثنين من المبانى الروسية التى تتمتع بالحصانة الدبلوماسية فى الولاياتالمتحدة ووصفها سيرجى لافروف فى حينه انها «سرقة فى وضح النهار». وقالت مصادر الكرملين ان الرئيس بوتين صدق على قرار وزارة الخارجية الروسية، فيما اشار دميترى بيسكوف الناطق الرسمى باسم الكرملين الى ان موسكو تحتفظ لنفسها بحق اتخاذ قرارات اخرى تطبيقا لمبدأ «المعاملة بالمثل»، فى اشارة الى ما قد تتخذه واشنطن من قرارات لاحقة حول تشديد العقوبات ضد روسيا فى حال تصديق الرئيس ترامب على قانون الكونجرس. وكشفت المصادر الروسية عن ان ما أقدمت عليه موسكو من خطوات يقتصر على الرد على القرارات التى اتخذها الرئيس الامريكى السابق باراك اوباما وفضًل الرئيس فلاديمير بوتين عدم الرد عليها فى حينه، فى محاولة من جانبه لعدم التصعيد وانقاذ العلاقات الثنائية، واتاحة الفرصة امام الادارة الامريكية الجديدة لتصحيح الاوضاع واقامة علاقات طبيعية مع موسكو. وأعلن سيرجى ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية فى أعقاب استقباله للسفير الامريكى فى موسكو أن «بلاده لا تستبعد أية خطوات اضافية لإعادة الولاياتالمتحدة الى رشدها». وكشف عن ان لدى روسيا «حزمة ردود فعل على عقوبات أمريكا لن تتوقف عند تقييد عدد العاملين والحجز على الاملاك الدبلوماسية»، مؤكدا أن الولاياتالمتحدة عبر عقوباتها، تسعى لعرقلة نشاط الشركات الروسية. وكانت موسكو كشفت عن ان العقوبات الاقتصادية التى ينص عليها قانون الكونجرس الامريكى تستهدف ضرب العلاقات الروسية الاوروبية ولا سيما مشروع بناء خط «التيار الشمالى -2» لنقل الغاز الى اوروبا، بهدف ارغام بلدان الاتحاد الاوروبى على شراء الغاز الصخرى الامريكى بديلا عن الغاز الروسى الأرخص ثمنا والأفضل جودة. ومن اللافت ان قانون تشديد العقوبات ضد روسيا يشمل أيضا كلا من إيران وكوريا الشمالية، ويقضى بتقليص فترات السماح بالنسبة للقروض التى يمكن للبنوك الروسية الخاضعة للعقوبات الحصول عليها من أسواق المال العالمية، رغم ان روسيا تملك سندات للخزانة الامريكية بما يبلغ 109 مليارات دولار. وكان بوتين أشار الى عدم مشروعية هذه العقوبات وتناقضها مع القانون الدولى وحرية التجارة العالمية، وهو الامر الذى قال الكثيرون من ممثلى الاوساط السياسية والاجتماعية فى موسكو انه لن ينال من عزيمة وصمود روسيا، فى نفس الوقت الذى يطالبون فيه بالتوقف عن تلمس الأعذار لدونالد ترامب، وتنتقد وقوعه أسيرا للتردد والمماطلة والنزاعات الداخلية، تحت وطأة ما يواجهه من تحديات داخلية واتهامات لم يواجهها أى من رؤساء الولاياتالمتحدة السابقين خلال الاشهر الاولى من ولايته، بما يكشف عن ضعف ساهم فى هبوط شعبيته حتى نسبة 37% ولم يمض على تقلده لمهام منصبه سوى ما يقل عن نصف السنة. وعن مدى قدرة موسكو على مواجهة العقوبات الامريكية، تقول المصادر الرسمية ان العقوبات لم تنجح يوما فى إثناء روسيا عن اهدافها ومخططاتها منذ ما قبل سنوات الحرب الباردة. وتعيد هذه المصادر الى الاذهان ما سبق وفرضه الكونجرس الامريكى من عقوبات على الاتحاد السوفييتى السابق فى سبعينيات القرن الماضى بموجب قانون «فينيك- جاكسون» الذى كان يحظر منح الاتحاد السوفييتى وضعية الدولة الاولى بالرعاية تجاريا، بسبب موقفه من هجرة اليهود السوفييت الى اسرائيل. وقد ظل هذا القانون قائما حتى بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل وسقوط الاتحاد السوفييتى فى عام 1991، لاستبداله فى عام 2012 بما يسمى اليوم «لائحة ماجنيتسكي»، الذى يقر العقوبات ضد عدد من رجال الاعمال والسياسة الروس بسبب ما يقال حول صلتهم بمقتل المحامى ماجنيتسكى فى سجون موسكو. ومضت هذه المصادر لتقول ان روسيا وشأنها على مر التاريخ لم تخضع يوما لأية ضغوط خارجية، طالما أيقظت فيها روح التحدى والمقاومة على الاصعدة كافة بما فيها العسكرية . واضافت ان العقوبات الامريكية ساهمت فى دفع روسيا الى الاعتماد على نفسها ولا سيما فى القطاع الزراعى الذى حقق هذا العام نسبة نمو تبلغ 3,5% . وثمة من يعيد الى الاذهان ان روسيا تمتد على طول 15% من اليابسة وتملك ما يزيد عن 33% من كل ثروات الارض من غاز ونفط ومعادن ومياه عذبة رغم كون عدد سكانها لا يتعدى 1,5 % من تعداد البشرية. . وكان لافروف وزير الخارجية الروسية أبلغ نظيره الامريكى تيلرسون »ان موسكو تمسكت بضبط النفس الى أبعد الحدود وانها اضطرت الى اتخاذ قراراتها حماية للمصالح الروسية«، معربا عن امله فى أن يثوب الجانب الامريكى الى رشده، وان يفكر فى العواقب السلبية لما اتخذه من قرارات، فى الوقت الذى عادت فيه موسكو لتهدد باحتمالات اتخاذها لاجراءات اخرى، يقينا انها لن تكون أقل حدة من سابقتها.