كعادتى فى فصل الصيف ومع تزايد الرطوبة وإرتفاع درجات الحرارة أسعى لتناول المشروبات الباردة. وفى ذلك اليوم جلست لأتناول شراب التوت المثلج. وشعرت بتحسن كبير فكل رشفة من ذلك المشروب المنعش تكتسح الشعور بالحرارة المرتفعة والرطوبة الخانقة. وفى ليلة من ليالى الصيف شجعتنى حالة الإنتعاش التى إنتابتنى،عقب إبتلاع نصف كوب من مشروب التوت المثلج،على متابعة برامج القنوات الفضائية فى التليفزيون. وخلال مشاهدتى إكتشفت أنى أتعرض لتيار كاسح مستمر من "السفسطة".فبعد متابعة الدقائق الخمس الأولى من أى برنامج يتناول الثورة المصرية والإجراءات القانونية والدستورية ..الخ تجد أنك قد عرفت الخبر أو القضية المحورية التى سيتناولها ضيوف البرنامج. وما أن يبدأ الحديث ويتوغل المذيع أو المذيعة مع الضيوف فى الشرح والتوضيح وتقليب الموضوع من كل زواياه حتى تجد نفسك وقد دخلت فى دوامة لانهائية تشدك بعمق نحو قاع ملئ بالأفكار الجدلية المتضاربة والقواعد الإجرائية الدقيقة.ويستمر مقدمو وضيوف البرنامج فى حالة التوغل إلى أن تصل لمرحلة تجعلك تشعر بالندم على وقتك الذى ضاع هباءا ،مع رغبة جامحة فى غلق جهاز التليفزيون والقيام بأى عمل مفيد يمكنه أن يلهيك عن تلك الدوامات الفكرية العقلية "الحلزونية"!! وفى بعض الأحيان ينقسم الضيوف إلى فريقين متنافسين بعد أن تتحول مواد القانون والدستور والإجراءات بينهم إلى كرة يتقاذفونها ويمررونها ويقلبونها بطرق بهلوانية كما يفعل اللاعبين فى ملاعب كرة القدم أو الكرة الطائرة وكرة السلة. وفى واقع الأمر فإن الإصرار على إدارة البرامج التليفزيونية بغرض إشباع حب الظهور لدى الضيف والرغبة فى ملء الفترة الزمنية المخصصة للبرامج بقضايا خطيرة شائكة دون إستعداد جيد لتوصيل الرسالة للمشاهدين فى تلك الفترة الدقيقة الخطرة من تاريخ البلاد تؤدى إلى الوقوع فى دوامات ما يعرف ب"السفسطة". وبإختصار فإن السفسطة بمعناها السلبى تعنى الأسلوب الملتوى "الحلزونى" فى الجدال والإستدلال،ولا يهدف مستخدمها للوصول للحقيقة وإنما إلى التضليل والخداع للتغلب على خصمه من خلال التهرب من تقديم إجابات موضوعية على أسس علمية منطقية سليمة. وقد برزت تلك الظاهرة فى عصور الإغريق القدماء الذين طبقوا الديمقراطية وبالتالى كان الإقناع والكلام وفنونه من الأساليب المهمة على المستوى السياسى والإجتماعى فى البلاد. وعندما تمادى الناس فى إستخدام السفسطة لدحض أفكار بعضهم البعض والطعن فى صحة رؤى وأفكار بعضهم البعض تولدت بالبلاد ظاهرة "تكدير العقول والفكر"بل وإمتد الخطر إلى ساحات القضاء والقوانين!! وسرعان ما إكتشف الإغريق أن مجتمعهم والصحة العقلية للشعب باتت على حافة الهاوية فتم إصدار قانون يقضى بإعدام من يمارس "السفسطة". ولم تشفع لسقراط العلوم والخبرات التى تميز بها وجعلته أحد أعظم الفلاسفة فى التاريخ،فعندما إتهمه أعداءه بممارسة السفسطة كان الإغريق على إستعداد للتنازل عن أى شئ إلا الصحة العقلية لشباب البلاد.لأنهم أدركوا أن العقل السليم غير المرهق والعلم النافع هما السبيل الوحيد لبقاء حضارتهم ولإستمرار تفوقهم على الفرس.وبهدوء شديد تم إعدام سقراط بلامقاومة عن طريق تجرع السم!! وبالتأكيد لا يتمنى أحد لإنسان أخر أن يلقى مصير سقراط ،ولكن وجب التنويه أن "الرحمة" مطلوبة.فالرحمة بالصحة العقلية لعامة الناس وللشباب على وجه الخصوص مطلوبة فى بلادنا اليوم أكثر من أى وقت مضى. قفزت تلك الأفكار إلى ذهنى وأنا أتناول أخر قطرة من مشروب التوت المثلج.فنحيت الكوب الخالى جانبا ونظرت إلى الأفق فى صمت. المزيد من مقالات طارق الشيخ