يمثل الأدب ظاهرة ثقافية مضمرة في مفهوم النقد الثقافى، وهذه الظاهرة تحوى أنساقا ثقافية داخل النص، تعكس سياقات مختلفة وفي عالم رواية «نقطة نظام» للكاتب الروائى صبحى موسى، يكشف عن نفسه حينا، ويتوارى خلف أنساق أخرى في بعض الأحيان. والنسق المضمر السافر أو الظاهر في ظنى، هو نسق «النظام». بداية من العنوان اللافت «نقطة نظام»، وهو عنوان ينطوى على دلالات ثرية، وإيحاءات غزيرة التنويعات. النقطة هى العلامة المستديرة الصغيرة جدا على سطح مستو. هى العلامة التى تكاد تختفى، ولكنها ماثلة في وجود مكثف. هذه النقطة.. الكائن المرسوم في ضعف ووهن، تجمع شتات المجتمع، شتات كل البشر العقائدى والإيديولوجى.. شتات النفوس المتأرجحة بين المرئى واللامرئى، بين الوعى والميتافيزيقى، بين الواقع والفانتازيا. والنقطة هنا هى المصب الذى ينتهى إليه مجرى الشتات، وحينئذ لن يكون شتاتا، وإنما سوف يصبح نظاما. والنص تنويعات مختلفة للنظام. بداية من نظام الكتابة وطريقتها، ونظام المكتب الصحفى الذى يعمل فيه الراوى، ونظام القرية التى يريد الراوى أن يكتب عنها. وداخل القرية تتفرع الأنظمة، ويبتلع الشتات كل المجموعات والطوائف... المجتمعات العائدة من الخليج، المجتمعات التى تقتات على السحر والشعوذة، المجتمعات المغيبة التى تفنى في حلقات الذكر، مجتمعات الليل وتجارة المخدرات والسلاح. كلها مجتمعات تحكمها في الأصل نظم داخلية خاصة بها، وقوانين تردعها، ولكنها تفككت وتداخلت، واستشرى فسادها، واحتاجت في النهاية إلى نقطة نظام. يبدأ النص سطوره الأولى بإشكالية الكتابة، وينهى بها سطوره الأخيرة، البداية تثير التساؤلات، وأحسب أن نسقى النظام والكتابة هما مفتاح النص الرئيسي. فمنذ كلمات النص الأولى، يجذب الراوى المتلقى إلى عالمين غامضين: الكتابة التى لم يحدد ملامحها المتوخاه، والقرية المجهولة التى لا يعرفها أحد. كلاهما عالمان مجهولان. من الوهلة الأولى يعيش القارئ في فقاعة بللورية تخترق حاجز الزمن، تصول في آفاق ماضيه، وتجول في مدارات مستقبلية، وتنسج حاضره على نول الفانتازيا. فانتازيا خاصة جدا في معتقد الكاتب. إنها ليست الغرائبية التى يلجأ إليها الروائيون، وتتعامل مع الخيال واللاواقع والحلم، وليست رؤية خاصة للعالم، ولكنها جزء من لحمة النسيج المصرى والمجتمع الريفى على وجه الخصوص وعند صبحى موسى، تغدو الفانتازيا جزءا من الواقع الذى يحاول إثباته أمام كل أشكال المحو الذى يتعرض له. كما أنها نسق مضمر داخل النص، يعيد تشكيل صورة المجتمع الريفى، ويجعله معادلا موضوعيا لمجتمع المدينة، بل يلفت الأنظار إلى أن مجتمع الريف هو المجتمع الأكثر خطورة على الرغم من إقصائه الشكلى خارج الصورة. إنه المجتمع الذى ينسحق فيه المهمشون بين مطرقة السحر والشعوذة وسندان الدرواويش والصوفية، تتناحر فيه القوى الغيبية والقوى المادية الفاسدة على أرضية وعى الإنسان المصرى. الأمر الذى يؤدى إلى طمس هويته، وتلاشى وعيه. فقد وقر في كيانه أنه في حاجة إلى «مهدى منتظر» ليصل إلى الخلاص. إنه في انتظار دائم «لجودو» صمويل بيكت. في مجتمعى صبحى موسى وبيكت، تعيش شخصيات مهمشة ومنعدمة ومنعزلة فكريا وماديا عن قلب الأحداث، ولكن هذه الشخصيات تخلق أحداثها الخاصة بها، وتلونها بواقع مخيف. كلا المجتمعين ينتظران المخلص، المهدى المنتظر ما هو إلا «جودو»، وكلاهما يكتنفهما العبث والسخرية، ويبتلعهما الانتظار. لكن صبحى موسى يفتح فرجة في الزمن الحالك، الجاثم على الأنفاس.