عبر مساحة زمنية تمتد لنحو سبعة عشر عاما( 1949_ 1966)، تتحرك الدراما فى الجزء الثانى من مسلسل الجماعة لكاتبه وحيد حامد، وتصنع انتخابا جماليا لجانب من التاريخ المصرى المعاصر، حيث مقتل حسن البنا، وتكريس جماعة الإخوان لثقافة الحشد والاغتيالات المتواترة لعدد من رجال الحكم على نحو ما حدث من قبل مع القاضى الخازندار والنقراشى باشا وغيرهما، وتغول التنظيم الخاص، والخلايا النائمة التى أصبحت متمترسة فى عدد كبير من مؤسسات الدولة المصرية، وهذا ما يظهر منذ المفتتح، فالمستشار الهضيبى والشيخ الباقورى ووكيل النيابة منير الدله وغيرهم كانوا أذرعا متوارية للجماعة سرعان ما تكشف دورها عقب الحراك الذى تلى مقتل المرشد، وكان الاستهداف للملك فاروق الذى تحالفت معه الجماعة من قبل ثم انقلبت عليه، وأثمر الرد الإخوانى على مقتل البنا عن جملة من الحوادث الدامية، وظلت الدراما تراوح على مستوى الصورة البصرية والانتقالات المشهدية بين رجال القصر «الحكم» ورجال الجماعة، وظلت هذه الثنائية حاضرة فيما بعد ثورة يوليو المجيدة، وإن ظل التقارب الإخوانى من السلطة مقرونا بحصد المكاسب، مع محاولة تأميم نتائج الثورة لمصلحة الجماعة على غرار ما حدث بعد ستين عاما تقريبا حين استولى الإخوان على المشهد السياسى المصرى عقب ثورة يناير المجيدة 2011، وبما يعنى أن الدراما فى رصدها للماضى لم تزل تملك عينا مفتوحة على ذلك الآن وهنا، حيث تتجادل المساحات بين الماضى والحاضر، متجاوزة فكرة الإسقاط على الراهن إلى محاولة قراءة اللحظة عبر مساءلة ماضيها. تتشكل الدراما وفق صيغة الثنائيات المتعارضة ، فالجماعة فى مواجهة النظام، وفكرة الخلافة فى مقابل الدولة الوطنية التى كرست لها دولة يوليو، حيث بدأت الدولة المصرية فى لعب دور مركزى فى المنطقة والعالم لمصلحة القومية العربية وحركات التحرر الوطني، وعلى الرغم من قرار حل الجماعة أيام الملك فاروق 1948، إلا أن الفكرة الإخوانية استمرت بأبعادها الطائفية وأوهامها المتوارثة التى وجدت ضالتها فيما بعد فى تنظيرات سيد قطب التى أقصت الجميع لمصلحة الجماعة، وتسلل مفهوم الحاكمية الذى بدأ مع أبى الأعلى المودودى وانتقل عبر سيد قطب إلى عموم الإخوان، فأصبحت أفكاره ملهمة ومحركة لهم، واتسعت الهوة بين المجتمع والجماعة مثلما اتسعت بين الدولة والإخوان، وأصبح التكفير منهجا، ومن ثم كان مشهد الختام فى المسلسل دالا ومؤثرا، ولعب الحوار الدرامى بين وكيل النيابة وسيد قطب دورا مركزيا فى إبراز الأفكار الأساسية لدى الجماعة ومنظرها خاصة فيما يتعلق بفكرتى الحاكمية وجاهلية المجتمع، وحينما أدرك مفكر التنظيم أن كل شيء انتهى أخذ يردد جملة لها صدى فى الواقع والدراما: «لو نسفت القناطر الخيرية لصارت الأمور مختلفة» وبما يعنى أن الإيمان بالعنف أصبح جزءا من بنية التفكير لدى الجماعة، فتخريب المنشآت والحرق والتدمير والاغتيالات كلها مباحة مادامت ستحقق دولة الخلافة المزعومة، وبما يعنى أن الولع بالدماء مرتبط بالوصول إلى السلطة لديهم، وقد وظفت الدراما آليات التفكير الإخوانى فى متن العمل عبر المواقف الدرامية توظيفا جيدا، وبدا أن السمع والطاعة خصيصة إخوانية تصادر العقل والتفكير. تتشابك خيوط الدراما وتحتدم فى أثناء المواجهة بين النظام والجماعة خاصة بين عامى 1954، و1965، ويصبح الصراع الدرامى واصلا إلى الذروة، وتلعب التقنيات الإخراجية دورا مهما فى إنتاج المعنى داخل الدراما، ويقدم المخرج شريف البندارى صورة مكتملة تجادلت معها كل العناصر التقنية لتتشكل حالة فنية ضافية، لعب التعبير الموسيقى الدال دورا بارزا فيها، وبدا عمر خيرت حاضرا بتيماته المألوفة وتجديده المبتكر أيضا. تحوى الدراما زخما هائلا فى الشخصيات بحكم الامتداد الزمنى والحوادث المتواترة، وتنهض الدراما على الجدل بين الحكاية الأم «ثنائية الدولة والتنظيم»، والحكايات الفرعية المتناسلة عنها والتى يصنعها شخوص الدراما المتنوعون، الذين هم فى الأصل شخوص حقيقيون ينتمون إلى الواقع: جمال عبدالناصر، سيد قطب، حسن الهضيبي، زينب الغزالي، صالح العشماوى وغيرهم ...، وقد جاءت اختيارات الممثلين جيدة للغاية، وبخاصة عبدالعزيز مخيون بعربيته الفصيحة وأدائه المحكم للدور وملامح الدهاء التى تبدو فى حركة العين فتعزز المعنى داخل المسلسل فى دور المستشار الإخوانى الهضيبي، وهكذا كانت صابرين مضطربة مشتتة لديها مرارات هائلة فى أدائها المتقن لدور زينب الغزالي، أما محمد فهيم فى دور سيد قطب، فقد أجاد بامتياز وبدا ممثلا لحالة عصابية تدعى العقل والرزانة، وبدا الممثل الأردنى ياسر المصرى فى دور عبدالناصر مقنعا للغاية. وبعد...«الجماعة» مسلسل مهم ومتماسك، يعيد كشف المسكوت عنه فى تاريخنا المعاصر، معتمدا على التوثيق الفني، غير متجاهل إمكانات التخييل الدرامى عبر حكايات يتزاوج فيها الواقع بالمتخيل، مثل حكاية الإرهابى الشاب آنذاك شكرى مصطفى، والبنية الاجتماعية التى ينتمى إليها، مفجرا لجملة من الأسئلة عن هذه الجماعة الأفعى التى اخترقت الحياة المصرية بتنويعاتها المتعددة، ومثلت طيلة الوقت عائقا أمام حركة التاريخ ، متحالفة مع الاستبداد تارة، ومسوغة لوجوده تارة أخرى، ودافعة على الدوام إلى تبنى نمط رجعى فى النظرة إلى العالم والأشياء. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;