أنا سيدة فى سن الخامسة والثلاثين, نشأت فى أسرة بائسة، ولى شقيقة تكبرنى بثلاث سنوات, وتحمل هموم الدنيا كلها, وتبدو دائما منكسرة وحزينة، لكنها دائما راضية ولا تشعر بأى نقص عن الآخرين، وأخت تصغرنى بعدة أعوام، وقد رحل أبى عن الحياة، وعشنا حياة جافة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وبصراحة كنت أتذمر كثيرا، وأقارن بين الحياة القاسية التى نعيش فيها, والحياة المرفهة التى يعيشها الآخرون, وكانت أختى تحدثنى برفق, وتحاول أن تبث فىّ بذور الصبر, وتعدد لى نعم الله علينا، وتقول لى: يكفينا وجود أمنا وحبها لنا، وكلما سمعت كلامها شعرت بالراحة والطمأنينة, وتعجبت من قدرتها على تبسيط الأمور إلى هذه الدرجة التى تجعلنى أنسى كل متاعبي، وفجأة اتخذت أختى قرارها بأن تتوقف عن التعليم, وتبحث عن عمل ينقذنا من الحالة المادية الصعبة التى وصلنا إليها, وطالبتنى بأن أواصل تعليمى حتى أحصل على الشهادة الجامعية وألا أحمل هما بعد اليوم، وحاولت أمى أن تثنيها عما اعتزمته لكنها أصرت على تنفيذ قرارها, ولم يفلح الأصدقاء والمعارف فى إقناعها بمواصلة تعليمها, وراحت تبحث عن وظيفة حتى وجدت عملا مناسبا فى إحدى الشركات بمساعدة أهل الخير, وتحسنت أحوالنا المادية بعض الشئ، وأصبحت أختى رجل البيت والمسئولة عن كل شىء, ولم تتوان عن تلبية أى مطلب لنا, ومضت الأيام وحصلت على الثانوية العامة بمجموع كبير, وأصرت أختى على إلحاقى بإحدى كليات القمة التى تمنيت الالتحاق بها, وبرغم إشفاقى عليها من المصاريف الباهظة التى تتطلبها الدراسة بها فإنها لم تسمح لأحد بأن يناقشها فى الموضوع, وفى تلك الفترة جاءها كثيرون يطلبون يدها لكنها رفضت بإصرار التفكير فى الزواج قبل أن تطمئن علىّ وأتخرج فى كليتي, ومرت الأيام، وحصلت على شهادتى، وعملت بمؤسسة كبرى، وعندما قبضت أول راتب لى سارعت إليها لأعطيه لها, لكنها أبت أن تأخذه مني, وعدت إلى الحديث معها عن أمر زواجها, فقالت إنها ستتزوج عندما يأتى النصيب، وخلال هذه الفترة تعرفت على زميل لي, وأحسست بصدق مشاعره, ورغبته الحقيقية فى الارتباط بي، وصارحته بظروفي, ورويت له قصتي, فزاد تمسكه بي, وتعاهدنا على الزواج حين تسمح الأحوال, وحددت موعدا لفتاى لكى يزورنا فى البيت ومعه أسرته, وجاء فى الموعد المحدد, وتمت خطبتنا، ثم أتممنا إجراءات الزواج، وانتقلت إلى بيتى الصغير، وبعد عام أنجبت طفلا، ثم ماتت أمى فجأة، فخلا البيت على أختى، وهنا وافقت على الزواج، لكنها لم تتخل عن مسئوليتها تجاهنا, ومضت الأيام وأنجبت طفلا جميلا أسمته على اسم أبي, وبعد عام ونصف العام حملت فى طفل آخر اختارت له أيضا اسما جميلا, ولم يمض أسبوع واحد على ولادة ابنها الثانى حتى مرضت, وزارت الطبيب بصحبة زوجها فنصحها بالراحة بعض الوقت, واستجابت لنصيحته وعادت إلى المنزل, وتركناها وكانت وقتها تبدو متعبة, وعدت اليها بعد عدة ساعات فوجدت الشقة مزدحمة بالناس الذين توافدوا من كل مكان على أصوات الصراخ والعويل. وهنا أدركت أن أختى قد فارقت الحياة فصرخت من أعماق قلبي, وأصابتنى هيستريا لم أدرك معها ما أفعله ولا ما أقوله، ولم أفق إلا فى اليوم التالي, وقد خلت الحياة من حولى ولم يعد لى من أشكو إليه همي. لقد ماتت أختى التى كانت كل شىء فى حياتي, وظلت تخصنى بحنانها وعطفها بالرغم من أنها هى التى عانت من الحرمان ما يفوقنى مرات ومرات, ومن تصاريف القدر أنه لم تمض سوى شهور معدودة حتى لحق بها زوجها فى حادث أليم، ولم يعد لابنيهما من يعينهما على متاعب الدنيا أو يجد لهما مأوى حيث كانت الشقة التى تعيش فيها أختى بالايجار الجديد وهكذا أصبحا بلا سند ولا مكان يعيشان فيه. لقد فقدت الحياة كل معانيها عندي, وأصبحت زاهدة فى كل شىء واستسلمت للمرض والاكتئاب, وأشعر بأن ألم الفراق يكاد يخنقنى كما أننى فى حيرة فى أمر ابنى أختى اللذين ضممتهما إلىّ، وسأفعل كل ما فى استطاعتى من أجلهما, فهذا أقل شىء يمكن أن أقدمه لها، والحمد لله رب العالمين . ولكاتبة هذه الرسالة أقول : هناك مثل فرنسى يقول «النسمة التى تطفئ الشمعة هى نفسها التى تزكى النار, وكذلك الفراق فإنه يقتل الحب التافه ويغذى الحب العظيم». وحبك لأختك الراحلة حب عظيم بما قدمته لك ولأمك خلال حياتها القصيرة على حساب سعادتها الشخصية التى ضحت بها فى سبيل سعادتكما واستقرار الأسرة, كما أنها حرمت نفسها من مواصلة التعليم الجامعي، وقد كان باستطاعتها ذلك, فى الوقت الذى أصرت فيه على أن تواصلى تعليمك حبا فيك وكرما منها. ومن الطبيعى أن تحزنى لفراقها, ولن أطالبك بالعودة إلى سابق حياتك قبل وفاتها على الفور, وإنما ينبغى أن تمنحى نفسك فترة من الوقت, حتى تتأقلمى مع الظروف الجديدة وتتعافى نفسيا, لكن هذه الفترة يجب ألا تطول حتى لا تتحول إلى اكتئاب يقتضى الخضوع للعلاج النفسي. واعلمى أنك تنتظرك مهمة جليلة, هى تربية ابنى شقيقتك الراحلة, وإسداء بعض الجميل الذى قدمته لك، وبالتالى فلا جدوى من الاستمرار فى الحزن حتى لا تسقطى فى بئر الأحزان وتغرق السفينة بمن فيها، فلقد أدت أختك المسئولية الإنسانية عن الأسرة, دون أن يشعر أحد بما قدمته أو يطلب منها ذلك, بل إنها اعتبرت ذلك سلوكا طبيعيا لمن كانت فى مثل ظروفها. والآن جاء دورك لتكرار هذا المثال مع إبنى أختك. فعليك من الآن توجيه بعض وقتك لرعايتهما والاهتمام بهما, وأن تنفضى عن نفسك غبار الأحزان, فالفرصة سانحة أمامك لمساعدة أختك الراحلة فى ابنيها اللذين سيكونان تعويضا من السماء للأسرة بإذن الله.