دعك من المناورات والحيل والألاعيب القطرية للتعامل مع القضية التي فجرتها مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وركّز في النتيجة التي وصلت إليها، وأبرزها أن السياسات التي كانت تنتهجها الدوحة قبل الأزمة لم تعد كما هي بعدها. الواضح أن الكثير من دول العالم بدأت تنظر للتصورات والممارسات القطرية، السياسية منها والإعلامية، بريبة وعدم اطمئنان وتم وضعها تحت دائرة الضوء، وما يبدو كأنه انقسام في أوروبا والإدارة الأمريكية يصب فى مصلحة الاتهامات التي وجهت للدوحة، ومحاولات توظيف هذه الحالة لم تؤد إلى نتيجة، ورهانها على عنصر الوقت لتليين مواقف الدول العربية الأربع فشل، بدليل عدم تغيير اتجاه الأزمة والتصميم على تنفيذ المطالب التي نشبت من أجلها. بالتأكيد ليس من بين أهداف هذه الدول حصار قطر وتجويع شعبها، كما تروج آلة الدعاية المؤيدة للدوحة والمحسوبة عليها في الخارج، لكن بالتأكيد مطلوب أن تتخلى عن تصرفاتها التي أغضبت الكثيرين منها. من يراقب الأداء العام بعد اندلاع الأزمة يجد تغيرا لافتا، فلا الخطاب الزاعق للدفاع عن الإخوان والجماعات المتشددة مستمر على حاله، ولا الهجوم الجارف على الدول التي درجت قطر على استهدافها منذ فترة يتواصل على نفس الوتيرة، وحتى النفس السياسي فقد جزءا من بريقه الدعائي. الخطاب في مجمله لم تدخل عليه تحولات جذرية، لكن النبرة والطريقة والمعالجة انتقلت من مربع الهجوم إلى الدفاع، وجرى التخلي نسبيا عن سلاح الهجوم الذي ساعد الدوحة على تحقيق مكاسب كبيرة في السنوات الماضية، خاصة أن الدول المستهدفة لم تبادلها الطريقة ذاتها، واكتفت في حينه بالصمت أو الرد في حدود ضيقة. الآن الصورة أصبحت معكوسة، فالأزمة أصابت الدوحة بالدوار السياسي، ولم تعد تبحث عن مكاسب وكل ما تريده تقليل الخسائر، لذلك لم تعترف بالاتهامات التي وجهت إليها وتسعى بقوة لتحويل الدفة إلى قضايا أخرى وحرف الموقف العربي عن مساره الصحيح، أملا في التنصل من المسئولية الرئيسية، لأن الاعتراف بها مباشرة يضع على عاتقها بتداعيات جسيمة يمكن أن تكبدها خسائر فادحة. قطر تريد أن تستثمر شبكة المصالح التي تربطها بدول مثل روسيا وفرنسا وبريطانيا، وتستفيد من انتهازية تركيا وإيران، لتشتيت الانتباه بعيدا عن جوهر الأزمة والدخول في تفاصيل جانبية تبعد عنها السخونة التي ظهرت عليها منذ البداية، وتظهر كأنها لم تتأثر وبالتالي لم تتغير سياساتها. من يمعن النظر في التطورات يجد أن الدوحة لم تعد تتعامل مع الأزمة في كل من سورياوالعراق وليبيا واليمن كما كانت، فداعش والتنظيمات المتطرفة تتكبد خسائر فادحة ولم تعد الجزيرة تشغل بالها ليلا ونهارا بهم، وتم اقتطاع جزء معتبر من بثها للدفاع عن تصورات الدوحة، وما بقي من وقت يتم توجيهه لأزمات كانت في قمة اهتمامها سابقا. على المستوى السياسي، رأينا وزير الخارجية القطري يجوب الأرض شرقا وغربا، ليقنع العالم بأن بلاده تتعرض لحصار وليس مقاطعة، ولم يعد مشغولا بالدفاع عن المعارضة السورية أو غيرها، وكل همه إنقاذ نظامه من الوقوع تحت المقصلة السياسية، ووجد في منهج الإنكار بابا قد يخفف عن الدوحة الضغوط التي تتعرض لها بسبب علاقتها المشبوهة بجماعات متشددة لعبت دورا خطيرا في عمليات الإرهاب التي شاعت في المنطقة. الأزمة وتجلياتها، بعثت برسالة مهمة لدول وجهات تمارس الدور القطري، بصور وأشكال مختلفة، ورأينا تركيا تقترب من الدوحة ليس اقتناعا بأهميتها أو حبا في أميرها وشعبها، بل دفاع عن مصالحها، لأنها تعي أن سُحب الأزمة تقترب من سماء تركيا، التي قامت بدور ليس ببعيد عما قامت به قطر، في العبث بأمن بعض الدول المجاورة ودعم الإرهابيين وتسهيل عمليات عبورهم إلى سوريا، علاوة على رعاية عناصر وقيادات متطرفة تعبث بأمن بلدان أخرى. عندما قرر البرلمان التركي إرسال قوات رمزية إلى قطر والتصديق عليه سريعا من قبل الرئيس رجب طيب أردوغان، لم يكن الهدف دعم الشيخ تميم بن حمد في مواجهة خصومه، بل »الشوشرة« على خطة الدول العربية الأربع والإيحاء بأن وصولها إلى أهدافها عملية صعبة، تعترضها معوقات أمنية وسياسية كبيرة، حتى لا تتمادى هذه الدول وتمد الخيط على استقامته وتتجه إلى فضح الممارسات التركية. هي عملية أسهل من المهمة القطرية، لأن هناك استعدادا غربيا لتقبل إدانة رسمية لتركيا، بعد تزايد العمليات الإرهابية في دول أوروبية، والتأكد من أن أنقرة لعبت دورا حيويا في تصاعد حدة العنف في منطقة الشرق الأوسط ودعم حركات إسلامية عدة، من هنا تحاول أنقرة التمسك بصمود ظاهر للتضامن مع الدوحة، لأن اتساع دوائر إدانتها إقليميا ودوليا مرجح أن يصيب تركيا أيضا. مهما يكن حجم الرذاذ السياسي الذي لحق بتركيا حتى الآن، سوف يظل أقل من دخولها حيز الاستهداف صراحة، لأن حجم مشكلاتها أشد عمقا، فموقفها أصبح سيئا في سوريا وورقة الأكراد تزداد ضغطا عليها، ودورها في شمال العراق يشتد غموضا، وعلاقتها مع واشنطن ما زالت ملتبسة، ووسط هذه الأجواء يصبح حشرها رسميا في زاوية واحدة مع قطر غاية في الصعوبة على مصالحها. سواء أرادت أنقرة أم لم ترد فالرسالة القطرية وصلت إليها، ولم تعد تمارس الدور العلني في تقديم وسائل الدعم المادي للقيادات المتطرفة، وتحاول أن تحتفظ بمسافة ظاهرة بعيدا عن العناصر المتشددة، ومساندة الدوحة هي جزء من الأدبيات التي يقوم عليها نظام أردوغان والتنصل منها يمكن أن يصيب حزب »العدالة والتنمية« في مقتل ويحرج قيادته وسط مريديه. لذلك تمشي تركيا في الخط الذي تسير عليه قطر، والانشغال بنفي الاتهامات والالتفاف عليها دون القيام بمزيد من الدعم المباشر للعناصر التي أدت بالدوحة إلى هذا المربع، يرمي إلى الحفاظ على ماء الوجه والحرص على تجنب تصاعد حدة الضغوط السياسية، من هنا تكون الأزمة قد حققت جانبا مهما من أهدافها، ويكفي حتى الآن أن قطر الجريحة اليوم ليست قطر المتضخمة بالأمس. لمزيد من مقالات محمد أبوالفضل