لم يكن التخلص من الحقبة الديكتاتورية بقيادة الديكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو، والإطاحة بالشيوعية من البلاد امرا يسيرا على الرومانيين بل كلفتهم خسائر كبيرة، فحينما خرج مئات الألاف من الرومانيين إلى الشوارع وراء تحرير بلادهم من قيود الطغاة والقضاء علي الفساد الذين تجرعوا منه كؤوسا علي مدى سنوات طويلة، كانوا يعلمون جيدا ان ثمن حريتهم باهظ، فكان العنف والدماء هما الخيار الوحيد من اجل تحقيق أهدافهم، وبعد نجاحهم في سطر نهاية تلك الحقبة المريرة وفتح صفحة جديدة في تاريخ بلادهم، ظنوا انهم قد وضعوا أقدامهم علي طريق الديمقراطية وانهم اصبحوا علي بعد أميال من تحقيق نهضتهم .. ولكنهم للأسف اصطدموا بواقع اكثر قسوة، وهو ان الفساد مازال متفشيا داخل أرجاء أحزابهم السياسية ومؤسساتهم، وانه كلما اتخذوا خطوة للأمام في مكافحة الفساد وجدوا أنفسهم قد رجعوا للخلف عدة خطوات . ورغم مرور نحو 28 عاما علي ثورتهم إلا انه مازال الصراع علي السلطة بين أعضاء الحزب الواحد وبين الأحزاب المتعددة يعيق تحقيق طموحاتهم وآمالهم. وكان الصراع على السلطة قد اشتد مؤخرا بين أعضاء الحزب الاشتراكى الديمقراطى الحاكم ، مما أدي إلى عزل رئيس الوزراء سورين جرينديانو عقب ستة أشهر فقط من توليه المنصب، وذلك عقب قيام البرلمان بتخصيص جلسة أستمرت اكثر من 5 ساعات لإجراء إستفتاء والتصويت علي حجب الثقة، الذي دعا له الائتلاف اليساري الحاكم، وكانت نتيجته موافقة 241 عضوا من أصل 464 علي سحب الثقة من جرينديانو. وجاءت تلك الخطوة بعدما أعلن الاشتراكيون الديمقراطيون عدم تأييدهم للحكومة لعجزها عن تنفيذ البرنامج الإقتصادى، وطالبوا جرينديانو بالإستقالتة، لكن جرينديانو رفض الرضوخ لمطالبهم متهما زعيم الاشتراكيين الديمقراطيين، ليفيو دراجنيا، بأنه هو من أثار الحرب ضده لرغبته في «احتكار السلطة». وبالفعل دراجنيا، هو من أثار غضب الساسة نحو جرينديانو وسعي لسحب الثقة منه، وذلك بعدما فشل الأخير في تمرير مرسوم يدعو إلى تقليص جهود مكافحة الفساد ويقضى بالإفراج عن آلاف السجناء فى قضايا متعلقة بالفساد والكسب غير المشروع، والذي كان ينص أيضا علي انتفاء العقوبة بالسجن على المتهمين باستغلال السلطة إذا لم يتجاوز المبلغ المستولى عليه 200 الف ليو روماني، «أي ما يساوى 47 ألف دولار». وقد حاول دراجنيا إجبار جرينديانو علي تمرير المرسوم، والذي بالطبع كان سيصب في مصلحة دراجنيا، الذي يواجه اتهامات بالاحتيال علي الدولة واختلاس نحو 24 الف يورو، إلي جانب إدانته بتهم تتعلق بالتزوير الانتخابي، وهو ما أعاق توليه منصب رئيس الوزراء عقب فوز حزبه في الانتخابات التشريعية نهاية 2016. وكان تمرير ذلك المرسوم بمثابة طوق نجاة له لإستكمال مشواره السياسي وتمكينه من تولي المنصب. وحينما أعلن جرينديانو اعتزامه تمرير المرسوم بحجة تخفيف حالة الاكتظاظ فى السجون، لم يكن من الصعب علي الشعب الروماني إدراك أنها حجة باليه وغير منطقية، وان الهدف من المرسوم زيادة رقعة الفساد التى تحول دون تقدم البلاد، مما جعل الآلاف يخرجون لشوارع العاصمة للقيام بمظاهرات مناهضة للحكومة مطالبين بإلغاء المرسوم، وتحت الضغط الشعبي اضطر جرينديانو لإلغائه، مما اثار غضب دراجنيا. وقد وصل الصراع بين دراجنيا وجرينديانو لذروته بعدما اصبح الأخير أكثر استقلالية في قرارته، كما انه قام مؤخرا بتعيين عدد من الوزراء الداعمين له ولسياساته، إلي جانب زيادة شعبيته. ومن اجل الإطاحة به لجأ دراجنيا للرئيس الروماني كلاوس يوهانيس لمطالبته بتعيين رئيس وزراء جديد إلا ان يوهانيس رفض البدء في أى محادثات حول تعيين رئيس وزراء جديد ليس تحيزا لجرينديانو، ولكن لأنه بموجب الدستور لا يمكن تعيين رئيس وزراء جديد في حين ان آخر مازال يشغل المنصب ولم يتقدم باستقاله ولم تسحب الثقة منه، وهو ما دفع دراجنيا إلى مطالبة البرلمان بإجراء اقتراع بسحب الثقة . وخلال الأيام القادمة سيتقدم الاشتراكيون الديمقراطيون وحلفاؤهم برئيس وزراء جديد على الرئيس كلاوس يوهانيس، الذي رغم موقفه المحايد تجاه الصراع بين دراجنيا وجرينديانو إلا أن هناك موقف لايزال يؤخذ عليه، ألا وهو عقب فوز حزب الديمقراطيين الاشتراكيين في الانتخابات التشريعية وعدم تمكن مرشحه دراجنيا من تولي منصب رئيس الوزراء بسبب الملاحقات القضائية، طلب يوهانيس من الحزب ترشيح شخص اخر، فكانت سيفيل شحادة هي المرشحة، إلا انه رفض تعيينها في المنصب متعللا بأنها تفتقر إلى الخبرة السياسية إلا انها بالفعل تمتلك الخبرة مما جعل عددا من المحللين يعتقدون ان السبب الأساسي هو كونها من الأقلية المسلمة في البلاد ثم وقع الاختيار علي سورين جرينديانو. تحديات كثيرة على طريق الديمقراطية يواجهها شعب هذا البلد الفقير، البالغ عدد سكانه نحو 22 مليون نسمة من أهمها اقتلاع الفساد من جذوره والقضاء علي ثقافة الإفلات من العقاب، ووضع حد للنزاعات بين الأحزاب وسعي بعض أعضائها للسيطرة علي مقاليد الحكم، وفشل رومانيا فى التخلص من الفساد او تقنينه ربما يهدد عضويتها في الإتحاد الأوروبى، التى حصلت عليها في عام 2007، بعدما تعهدت بمحاربة الفساد.