مجلس النواب هو الذراع التشريعية للتجربة السياسية المصرية, وعلى نجاحه فى الوفاء بمهامه التشريعية والرقابية تنعقد الآمال فى تطوير هذه التجربة نحو آفاق ديمقراطية, لأن كلاً من الذراع التنفيذية والقضائية راسختان بسلطة تنفيذية قوية وسلطة قضائية ذات ميراث عريق ومشرف من الاستقلال ، ولذلك كان أداء مجلس النواب على الدوام موضع اهتمام سياسى وإعلامى من الرأى العام ونخبته، باعتبار أن المجلس هو ثمرة اختيار لناخبين مصريين من حقهم أن يعبروا عن آرائهم فيه وفى أدائه. وفى هذا السياق مثلت مناقشة اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية مناسبة جديدة لمتابعة أداء المجلس مهامه وتقييم هذا الأداء ، وهذه القضية بالذات ليست كأى قضية، فهى أولاً قضية وطنية بامتياز، كما أنها ثانياً شهدت خلافاً واسعاً فى الرأي، ونذكر جيداً أنه بسبب حساسية هذه القضية، واختلاف الرأى حولها صدرت منذ البداية تصريحات من قيادات تشريعية وتنفيذية تؤكد أن المسألة جملة وتفصيلاً، سوف تُناقش فى مجلس النواب محاطة بكل الضمانات من أول إتاحة الفرصة كاملة لعرض وجهات النظر كافة، لا من قِبَل أعضاء المجلس فحسب وإنما أيضاً من خلال الاستعانة بالخبراء من التخصصات المختلفة القانونية والجغرافية والعسكرية والدبلوماسية بغض النظر عن وجهات نظرهم تجاه الاتفاقية، وصولاً إلى إتاحة الوقت الكافى للنقاش كى يطمئن الجميع إلى أن جميع الحقائق قد طرحت، وأن النقاش قد أخذ مجراه ولم يعد هناك مجال لمزيد ، وفى هذا السياق كان مؤكداً أن مناخ النقاش سوف يكون مثالياً، وكان الأمر برمته يمثل فرصة ذهبية لإرساء سابقة ديمقراطية تضيف الكثير إلى التجربة السياسية المصرية وتجعل الجميع راضياً عن نتيجة النقاش بغض النظر عن اتفاقها أو اختلافها مع وجهة نظره طالما أن ضمانات الموضوعية وضوابطها قد توافرت بامتياز . لكن مناقشة الاتفاقية جرت على عجل غير مفهوم، فلم يستغرق الأمر برمته سوى أربع جلسات استغرقت ثلاثة أيام، يومان للجنة التشريعية ونصف يوم للجنة الدفاع والأمن القومي، ومثله للمجلس ككل، علماً بأن السلطة التنفيذية ظلت تناقش الموضوع قرابة ثلث القرن منذ بدأت السعودية مطالبتها بالجزيرتين فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى بعد أن أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع مصر التى كانت قد قطعتها عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل فى 1979، وحتى تم توقيع الاتفاقية فى العام الماضي، وهو ما يعنى أن المسألة ليست بهذه البساطة وأن مجلساً قوامه مئات الأعضاء الذين يتبنون وجهات نظر متنوعة لا يمكنه أن يفى باعتبارات المناقشة الواجبة فى جلسة واحدة ، كذلك ساد الانطباع بأن الفرصة لم تُتح لكل الخبراء الذين كان من المفترض أن تكون وجهات نظرهم حاضرة عند مناقشة الاتفاقية، بغض النظر عن موقفهم منها، بل لقد عوملت خبيرة تتبنى وجهة نظر معارضة على نحو غير لائق. ولم يكن مريحاً أن يستنتج البعض أن السبب فى هذا هو موقفها المعارض ليس إلا، والغريب فى الأمر أنه كان من الواضح أن الموافقين على الاتفاقية يفوقون المعترضين عليها عددياً بكثير، بمعنى أنه لو كان الغرض هو ضمان تمريرها فإن هذا كان مضموناً مع فارق مهم هو أن تمريرها بهذه الطريقة يعطى الانطباع بأن ثمة خشية من أن النقاش الواسع الصريح قد لا يكون فى صالح تمرير الاتفاقية، وأن الجانب المؤيد للاتفاقية يخشى من حجج المعارضين لها ، وهكذا تكون هذه الطريقة فى الموافقة عليها قد أضرت بها من حيث لا يحتسب مؤيدوها ، على الأقل من زاوية أنها سوف تترك الفرصة دائماً لمعارضى الاتفاقية للاستمرار فى إثارة القضية بغض النظر عن إقرار الاتفاقية لأن الإجراءات القانونية عادة لا تكفى لحسم الخلافات فى قضية سياسية بامتياز . غير أن ثمة قضية أخرى أثيرت فى سياق مناقشات مجلس النواب المتعلقة بالاتفاقية لا تقل أهمية عنها، بل لعلها أهم لأنها تتعلق بمبدأ دستورى، وهى قضية العلاقة بين السلطتين التشريعية والقضائية، إذ صرح رئيس المجلس فى اجتماع لجنة الشئون التشريعية والدستورية بأن أى حكم يعتدى على اختصاصات السلطة التشريعية لا حجية له وسيكون هو والعدم سواء، وبطبيعة الحال لا يمكن بالفعل قبول أى اعتداء على اختصاصات السلطة التشريعية ، ولكن المشكلة لا تثور على الصعيد النظرى فحسب، فماذا لو أن السلطة القضائية أصدرت حكماً فى مسألة تعتقد أنها تدخل بدورها فى اختصاصاتها خاصة لو حكمت المحكمة الدستورية العليا بأن ما تصدت له المحكمة هو من صميم اختصاصها؟ من الواضح أن المسألة تثير قضية العلاقة بين السلطات، وهى القضية المحسومة فى الدستور المصرى فى مادته الخامسة التى تنص على أن النظام السياسى يقوم على أساس الفصل بين السلطات والتوازن بينها، فكيف نوفر لهذا المبدأ مقومات احترامه فى هذا السياق الصعب؟ أعتقد أن المسألة من الأهمية بمكان بحيث تحتاج نقاشا موضوعياً هادئاً وجاداً يشارك فيه أساتذة القانون الدستورى وخبراؤه، ولا مانع من مشاركة رجال السياسة وأساتذتها فيه بعيداً عن الصخب وتبادل الإهانات أثناء مناقشة الاتفاقية، ويبقى أن واجبنا كمصريين حريصين على مستقبل الوطن أن نصارح أعضاء المجلس بأن مشهد مناقشة الاتفاقية كان مصدر قلق وألم لنا، وأننا نتمنى أن يكون المشهد الأخير من نوعه . لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد