ما بين كونها «دعوة للخير» وإحساسا ب«المسئولية المجتمعية» تظهر قيمة التبرعات خاصة للمرضى .. وبنظرة واقعية نجد أن التبرعات تسهم بنصيب كبير في تطوير المستشفيات وتحسين خدماتها فى ظل الأوضاع الراهنة التى تشهد ضغط أعداد المرضى والطلب المتزايد على الأدوية والمستلزمات وتوفير الأسرة. ولكن تظل السمة الغالبة هى إطلاق المبادرات واستحواذ جهات قليلة على الجزء الأكبر من جمع التبرعات بينما تبقى منشآت أخرى لا يعلم المتبرع شيئا عن معاناتها ولا يصلها الجزء اللازم لسد احتياجاتها. ويبقى الوضع على ما هو عليه فى غالبية منشآت الرعاية الصحية : معاناة فى البحث عن أسرة فى الحضانات أو الرعاية المركزة أو نقص فى المستلزمات الطبية ، وهو ما يجعل الأمر لا يخلو من الجدل والتساؤلات حول مفهوم «إدارة التبرعات» لتعظيم الفائدة ووصولها إلى مستحقيها.. وهو ما تباينت حوله الآراء مابين التأكيد على طلب التبرعات وفقا خطة واضحة لاحتياجات المنشأة الصحية وأوجه الصرف لتعود على الجمهور المتلقى للخدمة، أيضا ضرورة توفير آلية للمتابعة والرقابة من قبل المتبرعين، وأخيرا المطالبة بإنشاء هيئة مستقلة لضمان عدالة توزيع هذه التبرعات وفقا لاحتياجات محددة ومعلنة لكل مستشفي. التنظيم وعدالة التوزيع يري الدكتور حسين خالد وزير التعليم العالى الأسبق، أن الأوضاع الاقتصادية الراهنة تجعل أداء الخدمات الصحية بالشكل الأمثل عملا ليس باليسير، وفى الوقت ذاته نجد الكثير من أهل الخير فى مصر الذين يبذلون نية وجهدا صادقين للمساعدة ودعم جهود الدولة، وهو ما ينطبق على العديد من رجال الأعمال والبنوك والشركات والمؤسسات التى تشارك فى عمل الخير أو تخصص جزءا من أرباحها للأعمال الخيرية وخدمة المجتمع المدنى ، يضاف إلى ذلك مصارف الزكاة والصدقات و«العشور»، وهى مبالغ ليست بالقليلة إذا أحسن توظيفها والاستفادة منها. ولكن للأسف يقابل كل هذه المجهودات فوضى فى عملية جمع التبرعات والاستفادة فى كل المجالات ومنها مجال الرعاية الصحية، كما نصطدم بميراث من عدم الإقبال على إعطاء التبرعات للدولة خوفا من عدم التصرف الأمثل أو ضياع أموال التبرعات فى غير وجهتها، ولذا نجد اللجوء إلى الجمعيات الأهلية أو التبرع بشكل مباشر إلى الجهة المراد مساعدتها. والحل كما يقترحه الدكتور خالد يتمثل في إنشاء هيئة مستقلة عن الدولة ويكون لها مجلس أمناء أو إدارة من الشخصيات العامة التي تتمتع بالثقة والقبول من المجتمع، وتكون مهمتها العمل كحلقة وصل بين المتبرعين وبين الأوجه المستحقة لهذه التبرعات، ويقصد بالحديث المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية والجامعية. علي أن يتم استقبال إحتياجات كل مستشفي، مع وضع الأولويات حسب الاحتياج وتأثيره سواء بتحسين جودة الخدمة المقدمة أو زيادة عدد المستفيدين أو منع قوائم انتظار أو رفع كفاءة الأجهزة والمعدات الطبية والمعملية وغيرها. وبذلك نضمن «وعاء» مخصصا فقط للرعاية الصحية وفقا لأهداف محددة وواضحة على مدى زمنى معلن ومعروف للجميع، كما يجعل عملية التبرع تدار بشكل أكثر شفافية تشجع المتبرعين علي إعطاء المزيد طالما يستطيعون رؤية نتيجة تبرعاتهم، وهو ما يخلق التكامل الأمثل فى التعاون مع الدولة والخروج من «عشوائية جمع التبرعات وصرفها» في إطار من الثقة والشفافية بين المجتمع. جانب آخر يؤكد عليه الدكتور أيمن صالح مدير مستشفيات جامعة عين شمس ، وهو أهمية عدم قصر التبرعات على الأدوية والأجهزة وفقا لرؤية المتبرع ، إذ لابد من جمع التبرعات وفقا لخطة متكاملة عن احتياجات المكان وتطوير أدائه. مشيرا إلى أن احتياجات المنشأة الطبية تتسع لتشمل رفع كفاءة العنصر البشرى المنوط بتقديم الخدمة. ويستطرد: لا فائدة من توفير جهاز متطور ولا يوجد عنصر بشرى مدرب قادر على استخدامه، أو فنى لتشغيله وصيانته، أو ممرضة ذات كفاءة لمساعدة المريض ، بالتأكيد أن توفير الأدوية وخدمات الجراحة والكشف أمر هام إلا أنه ليس كل الغاية . ويقترح الدكتور صالح أولا التنسيق داخل المؤسسة الواحدة بهدف التوزيع العادل للتبرعات ، موضحا أن هناك تخصصات تستحوذ على تعاطف المتبرعين ومنها أمراض السرطان وجراحات القلب وغيرها. بينما نجد أمراضا أخرى لا تأخذ نفس القدر من التعاطف نظرا لكونها لم تسوق إعلاميا وإعلانيا بنفس الانتشار ، ومنها الأمراض العصبية والكسور والعيوب الخلقية وغيرها على الرغم من قسوتها على المرضى وذويهم . بينما يأتى الأمر الثانى وهو طرح أجندة واضحة ومحددة بالإحتياجات وطرق تلبيتها وكيفية توزيع التبرعات المطلوبة وفقا للأولويات سواء كانت توفير فرص لرفع مستوى التعليم والتدريب للطاقم الطبى والمساعد والفني. فلابد من إعطاء أولوية لرفع كفاءة صغار الأطباء والتمريض إذا كنا نريد رفع مستوى الخدمات المقدمة. أيضا تضم قائمة الإحتياجات توفير المستلزمات والتوسعات الإنشائية ورفع كفاءة خدمات الطورائ والإسعاف وزيادة أعداد العربات وغيرها سعيا لتوفير خدمة طبية لائقة للمرضى، وهذا التنظيم والرؤية الواضحة ضرورة ملحة أمام السخاء فى العطاء من الأفراد أو رجال الأعمال أو المؤسسات والبنوك، فحب الخير موجود ولكن توافر الثقة هو ما يدفع للتكرار والزيادة. مع الاهتمام بإدارة التبرعات وخلق فرص متكافئة، فالبعض أكثر مهارة فى جمع التبرعات وربما بما يزيد عن احتياجاته بينما الآخر لا يجيد ولا يتحصل على أى من احتياجاته. ويسوق مثالا بتجربته منذ توليه مهام إدارة مستشفيات جامعة عين شمس بمحاولة تغيير الوضع السائد والمتروك لاجتهاد كل فرد فى تخصصه وقدرته على جلب التبرعات. حيث تم اللجوء لإفادة كل الأقسام من خلال الدعوة لتوجيه التبرعات بشكل مركزي للمستشفيات بالتعاون والإقناع من الأساتذة. وذلك من خلال تحديد وعائين لتلقى التبرعات ، الأول من خلال حساب مخصص للمستشفيات فى البنوك والثانى لجان زكاة تابعة لبنك ناصر . وينصح بأهمية إشراك المتبرع فى متابعة نتائج ما قدمه لزيادة الثقة. ويذكر مثالا بمساهمة البنك الأهلي في تطوير وإمداد الرعاية المكبرة للجراحة بعدد 41 سريرا وعلى مدار الثلاث السنوات اللاحقة يأتي وفد من البنك ليتابع الأجهزة وكيفية صيانتها ومدي انتفاع المرضي. فئات منسية ويتفق الدكتور محمد إسماعيل مدير برنامج زراعة الكبد بالمعهد القومى للكبد، على ضرورة إنشاء جهة على غرار اللجنة العليا للزكاة تدار بالشراكة بين شيخ الأزهر والبابا ويتبعها لجان متخصصة لإدارة التبرعات فى ضوء دراسة ما يقدم إليها من احتياجات وبناء عليها يتم عمل ترتيب للمستشفيات واحتياجات المرضي بها. ويوضح أن غالبية الناس يتبرعون لعلاج أطفال السرطان ، وهو جهد محمود ، ولكن السؤال : كم يمثل نسبة سرطان الأطفال من إجمالى السرطانات بين المصريين ؟ وماذا عن سرطان الكبد الذى يمثل رقم (واحد) فى أسباب السرطان بين المصريين ؟ ونفس الأمر ينطبق علي نسبة سرطان الثدى من حيث عدد المرضى وتكاليف العلاج والتبعات المرتبة على المرضي وأسرته أو الإنتاجية وتأثيرها علي الاقتصاد القومى ككل ، وهو ما يضعنا أمام حقيقة ضرورة إمتلاك رؤية واضحة لجمع التبرعات وكيفية إدارتها وإنفاقها ، الجميع يتفق على أن لكل المرضى حقوق متساوية فى تلقى العلاج ، ولكن لابد أن نضع أولويات لضمان عدالة توزيع التبرعات بدلا من صبها فى جهات محددة فقط. ويستطرد: هناك فئة منسية من المرضي وهى ضمن الفئات الأحق بالتبرعات مثل مرضي زراعة الأعضاء وتشمل الكبد والكلى والنخاع الشوكى ، مؤكدا ان التعاون بين المجتمع المدنى والحكومة فى توفير تكاليف الزراعة يساهم فى القضاء على مافيا تجارة الأعضاء،وينظم إجراء العمليات. ضاربا المثل بنظام زراعة الكبد للمرضى والتى تتولي الجمعية المصرية لمرضى الكبد دفع 100 ألف جنيه تكلفة الزراعة للمريض الواحد بشرط إجراء الفحوصات وإصدار ترخيص للزراعة. وهو نظام واضح يحوذ على ثقة المتبرع ويضمن إنفاق التبرعات فى وجهتها المحددة وهى مساعدة المريض. ويصف الدكتور إسماعيل الوضع الحالي ب«المبالغة» فى الحملات الإعلانية دون الاستناد للقواعد للعلمية ، وغالبا من يستحوذ على النصيب الأكبر من التبرعات هو الأقوي إعلاميا ، وليس حسب الإحتياج أو حجم المستفيدين . أيضا يذهب جزء أكبر من عائد هذه الحملاات إلي شركات الدعاية والإعلان وفى بعض الحالات تصل النسبة لنحو 60% من إجمالى التبرعات المحصلة ، وهي نسبة مخيفة تعنى ضياع جزء ليس بالهين من التبرعات فى غير المصرف الموجه له ، وهو خدمة المرضي. التبرعات حل اضافي على الجانب الآخر ترى الدكتورة عالية المهدي عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ، أن اسناد تطوير الخدمة الصحية الى التبرعات هو شيء إضافي ومساعد كونها مسئولية أصيلة للحكومة ، متخوفة ان يتم التعامل مع التبرعات علي أنها أساس تطوير الخدمة الصحية وتوفير احتياجات المستشفيات ، ولذا لابد من تخصيص ميزانية لتطوير وتحديث المستشفيات الحكومية والجامعية ، وتؤكد على أن زيادة التبرعات ليست هى الحل لأزمات الرعاية الصحية، إذ لابد من النظر للصورة بأكملها ممثلة فى منظومة الإدارة ثم المتابعة ثم الرقابة، مشيرة إلى ضروة وجود ضوابط محددة وعادلة لتنظيم تلقى التبرعات من خلال تخصيص قوائم بالاحتياجات ومواصفاتها من خلال إدارة التبرعات التى تتعامل مع المتبرعين ، وعدم ترك الأمر مفتوحا للمتبرعين فقد يقدمون أشياء يوجد بها وفرة. عينية أم نقدية ويرى الدكتور أحمد حسنين المشرف العام على وحدات الحروق بوزارة الصحة أن الأفضل ان تكون هذه التبرعات عينية، وليست نقدية طبقا لاحتياجات المستشفى وأن تسلم فى دفاتر رسمية وتصبح ملكية خالصة للمستشفي، ويعطى المتبرع صورة من دفتر التسليم لمزيد من الثقة بين المتبرع والمكان وإدارته ويطمئنه على الإلتزام الصارم بالمسارات التى حددها لصرف هذه التبرعات. ويستطرد: بنظرة واقعية نجد أن التبرعات تلبى الكثير من احتياجات القطاع الصحى سواء كانت إنشاءات أو أجهزة طبية، على سبيل أمثال أقسام الحروق على مستوى الجمهورية بها حاجة للتجهيزات والمستلزمات، مثل أسرة العناية المركزة للحروق وأجهزة التنفس الصناعى وأجهزة المونيتور وأسرة المرضى وترولى حمام لمرضى الحروق وغيرها. ويوضح أن وزارة الصحة تقبل التبرعات وهناك أقسام أسست بالكامل من التبرعات، وأحيانا يتم تسمية المبنى باسم المتبرع، ويكشف عن أن التبرعات إلى المستفيات الحكومية قليلة نسبية مقارنة بالمستشفيات الجامعية أو بعض المستشفيات الأهلية والخاصة نظرا لنقص الدعاية.