بعد شهر من الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل، يتوجه الناخبون الفرنسيون اليوم مجددا لخوض معركة جريئة أخرى فى الانتخابات البرلمانية تحدد من جديد قدرة الرئيس إيمانويل ماكرون على كسر التقاليد وترسيخ حكمه. ومع أن حزبه "الجمهورية للأمام" بلغ بالكاد عامه الأول، فإن ماكرون يراهن مجددا على إحراز آكثرية برلمانية ليس فقط لتأكيده العزم على تطبيق إصلاحاته الطموحة، بل أيضا لإيمانه بأن الناخب الفرنسى سيواصل حركته لتحقيق تغيرات جذرية وزلزلة الحياة السياسية فى البلاد. ومن هنا، فإن الانتخابات ليست فقط معركة بين الجديد والقديم أو بين الوسط واليمين المتطرف، إنما لعدة أسباب مجتمعة من شأنها توجيه الوضع السياسى فى فرنسا لسنوات طويلة وما يحيط بها من حركات واتجاهات فى أوروبا بالتالي. وهكذا، فإن نتائج الانتخابات ستحدد ما إذا كانت خطة ماكرون لإصلاح سوق العمل وإعادة النمو إلى الاقتصاد الفرنسى ستأخذ مجراها أم ستتحطم أمام تطلعات الناخب الفرنسى لتحسين الوضع الاقتصادى الذى يظل دائما أول الاهتمامات لأى مواطن فى كل دول العالم. صحيح أن الدستور الفرنسى يمنح الرئيس سلطات بما فى ذلك سلطة حل البرلمان وترشيح رئيس الوزراء فضلا عن السيطرة الواسعة على الدفاع والسياسة الخارجية، ولكن يجب أن يحظى الرئيس بتأييد الأغلبية فى البرلمان للحكم، وتمرير القوانين وتنفيذ أجندة حملته الانتخابية. وسيظل ماكرون قادرا على إدارة السياسة الخارجية الفرنسية، حتى من دون أغلبية فى البرلمان، لكن سلطته ستكون محدودة فيما يتعلق بالسياسة الداخلية. ومن بين أهم النقاط المثيرة للقلق هو أن هذه الانتخابات البرلمانية لا يمكن التنبؤ بها بسبب نظام التصويت الفرنسي. وتبدأ الجولة الأولى من الانتخابات فى الفترة من 11 إلى 18 يونيو الحالي، وتشمل أساسا 577 سباقا انتخابيا مصغرا - واحد لكل مقاطعة التى تمثل منطقة من فرنسا - والتى تجرى على مدى جولتين، ويمكن للمرشح أن يفوز فى الجولة الأولى إذا حصل على أكثر من 50٪ من الأصوات، وإذا لم يصل أحد إلى تلك النسبة، فهناك جولة ثانية مع أى شخص كانت نتائجه من الجولة الأولى لا تقل عن 12،5٪. ويشجع مثل هذا النظام الانتخابى اتفاقات التحالف بين الأحزاب المتوافقة، وكذلك الصفقات بين الجولتين. وهكذا، فإن المرشح المؤهل قد يختار عدم خوض الجولة الثانية لضمان انتصار الحليف، أو لعرقلة منافسه. وعلى الرغم من أن التحالف الذى يدعم ماكرون - وهو "الحزب الديمقراطي" الذى يرأسه وزير العدل فرانسوا بيرو - لديه فرصة جيدة جدا لتحقيق أغلبية فى البرلمان، فإن المرء لا يستبعد اثنثين من النتائج الأخرى التى قد لا تكون مواتية للرئيس الجديد. فيمكن لحزب أو ائتلاف آخر أن يفوز بأغلبية فى البرلمان، الأمر الذى سيكون ضربة قوية لجدول أعمال ماكرون فى الشأن الداخلي، أو، يمكن أن تكون هناك نتيجة "مجزأة"، بمعنى عدم قدرة أى حزب أو ائتلاف على تحقيق الأغلبية. وبغض النظر عن النتائج، فإن الانتخابات سوف تشير إلى إعادة ترتيب كبيرة من المشهد السياسى الفرنسى وتشكل تحديا للأحزاب الكبري، فإذا كانت حركة ماكرون ستكتسب الأغلبية، سيكون ذلك تطورا مذهلا، خاصة وأن حزبه الصغير ظهر للوجود فقط فى أبريل عام 2016، ولذلك فإن الحزبين اللذين طالما سيطرا على السياسة الفرنسية منذ عام 1958، هما الحزب الاشتراكى اليسارى واليمينيون المتطرفون"الجمهوريون"، ما زالا يشعران بالاضطراب وعدم التوازن، فيعانى بالفعل أعضاء اليمين المتطرف من الانقسام ويواجهون ضغوطا من ماكرون، بعدما عين عددا من قادتهم البارزين فى حكومته، بما فى ذلك رئيس الوزراء إدوارد فيليب ووزير الاقتصاد برونو لو مير. بينما يتعرض الحزب الاشتراكي، بعد الخسارة الفادحة لمرشحه بينوا آمون فى الانتخابات الرئاسية للتهديد ويواجه الاختفاء المحتمل. وهكذا فستؤدى الانتخابات إلى ظهور وجوه جديدة إلى الطبقة السياسية الفرنسية بشكل واسع. وحتى هذه الانتخابات، كان من الشائع للغاية أن يجمع السياسيون الفرنسيون بين المناصب المحلية والوطنية، مثل كونه عمدة محليا وعضوا فى البرلمان الوطني، ولكن هذه المناصب أصبحت محظورة الآن بموجب قانون عام 2014، الذى أعطى 3 سنوات للسياسيين للاختيار بين منصب محلى وأخر وطني. وقد يحصل حزب ماكرون على الأغلبية فى الانتخابات البرلمانية أو لا يحصل عليها، وقد تكفى هذه الأغلبية لتحقيق الإصلاحات التى تزداد الحاجة إليها فى فرنسا، ولكن ما لا شك فيه هو أن المشهد السياسى الفرنسى سيكون مختلفا بشكل كبير فى السنوات الخمس المقبلة وقد ينعكس أثره على أوروبا ثم العالم أجمع.