تناولنا فى المقال السابق العلاقة بين سعر الفائدة والاستثمار، وهنا نعرج لمناقشة الجانب الآخر من المسألة، وهو الخاص بالأثر على الادخار المحلى والذى يعد احد أهم مصادر تمويل الاستثمارات، بل هو المصدر الرئيسى لها، حتى فى ظل تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، بل إنه ضرورى لجذب هذه الأموال . وذلك لأن نجاح أى مشروع جاد ، فى المديين المتوسط والطويل يتوقف على حسن أداء الاقتصاد فى مجموعه. ونظرا لضرورة رد هذه الاستثمارات فى المستقبل فمن الضرورى أن تستخدم بشكل منتج وفعال ومن ثم فان اجتذاب المدخرات الخارجية يتطلب أولا زيادة المدخرات المحلية وتعبئتها فى استثمارات رشيدة ومنتجة. وبالتالى فان زيادة معدلات النمو تتطلب أولا زيادة المدخرات لتحفيز تكوين رأس المال. إذ كلما ارتفع معدل الادخار أثر ذلك بالإيجاب على معدلات النمو. وكما هو معروف فان المدخرات المحلية هى حصيلة مدخرات القطاع العائلى ( الودائع لدى الجهاز المصرفى وأقساط التامين الاجتماعى وغيرهما ) والفائض أو العجز فى الموازنة الجارية والأرباح المحتجزة لدى شركات قطاع الأعمال العام والخاص. ويقاس الادخار المحلى بالفرق بين الناتج المحلى الإجمالى بالأسعار الجارية والاستهلاك النهائى (عام وخاص) خلال فترة زمنية معينة. وينقسم الهيكل القطاعى للادخار بين الادخار الحكومى الذى يتمثل فى رصيد الموازنة العامة للدولة ( الفائض او العجز ) والادخار غير الحكومى والذى يتعلق بادخار القطاع العائلى والقطاع المالى والقطاع الخاص . وهنا نلحظ ان معدل الادخار المحلى فى تراجع مستمر إذ هبط من 14.3 % عام 2009/2010 الى 5٫8% عام 2015/2016. وهو معدل منخفض للغاية لا يتناسب بأى حال من الأحوال مع معدلات الاستثمار المطلوبة لرفع معدل النمو بما يحقق الأهداف التنموية للبلاد، وامتصاص البطالة المرتفعة. وأدى ذلك الى اتساع فجوة الموارد المحلية والتى وصلت الى 9.2% خلال العام المالى 2015/2016. ومع تسليمنا الكامل بان تراجع الادخار المحلى يرجع فى جانب كبير منه الى عجز الموازنة العامة للدولة. اذ تشير الإحصاءات الختامية لمصفوفة الادخار والاستثمار الى ان القطاع العائلى استطاع تعبئة مدخرات لابأس بها خلال الفترة الماضية إلا انها استخدمت فى معظمها لإقراض الحكومة وتمويل عجز الموازنة. وبمعنى آخر فان الزيادة المستمرة فى عجز الموازنة العامة للدولة تعد عنصرا أساسيا فى ضعف المدخرات المحلية. هذا فضلا عن تأثيرها على الائتمان المقدم للقطاع الخاص، ومن ثم الحد من قدرات الجهاز المصرفى على توفير التمويل اللازم لهذا القطاع. وعلى الرغم من ذلك فان المتتبع لمدخرات القطاع العائلى يجد ان معدلاتها فى تناقص مستمر أيضا، سواء داخل الجهاز المصرفى او توفير البريد وشهادات الاستثمار، هذا فضلا عن ارتفاع معدلات الاكتناز والاستمرار فى تفضيل التعامل النقودى عن التعامل المصرفي. ويرجع البعض السبب فى ذلك الى ضعف دخول الأفراد باعتباره عاملا مهما فى تحديد نمط الاستهلاك، فإذا كان مستوى الدخل ضعيفا فان حساسية الادخار الخاص لأسعار الفائدة ستقترب من الصفر. وهو ما يطبق على البلدان التى تتميز بسوء توزيع الدخول بين الأفراد، كما هو الحال فى مصر. وعلى الجانب الآخر نلحظ أن معدل التضخم والذى يقدر حاليا بنحو 31 % بينما معدل الفائدة يصل فى المتوسط الى 15% مما يشير إلى انخفاض العائد الحقيقى لأسعار الفائدة على الجنيه المصري، الأمر الذى يتطلب العمل على رفع هذا المعدل، وهو أمر ضرورى فى المرحلة الحالية. مع ضرورة الاستمرار فى تهدئة الأوضاع بسوق الصرف الاجنبى ، وإعادة الثقة والمصداقية فى القرارات الحكومية المساعدة على ذلك وعلى الرغم من هذا إلا أن العلاقة السببية بين نمو الدخل ومعدل الادخار لم تحسم بعد خاصة فى ظل تأثير بعض العوامل المؤسسية على هذه العملية. حيث إن جزءا لا بأس به من الادخار فى مصر، يعد بمثابة ادخار اجبارى يتخذ شكل مساهمات فى صناديق المعاشات او بعض الأشكال الأخرى التى تتحقق بغض النظر عن معدل العائد عليها. وبعبارة أخرى فان المدخرات الإجبارية المتمثلة فى التأمينات والمعاشات تمثل الجانب الأكبر من الادخار المحلى، بينما المدخرات الاختيارية مثل صندوق توفير البريد وشهادات الاستثمار والأوعية الادخارية الأخرى تسهم بنسبة أقل فى هذه الأموال. يضاف الى ما سبق ان تشجيع الادخار المحلى يعتمد على مدى مشاركة الجمهور فى التعامل مع المؤسسات المالية، ونظرا لان مصر من البلدان التى لا تتمتع بمشاركة فعالة من الجمهور فى المؤسسات المالية، فإنها لن تتأثر كثيرا بالتغييرات فى أسعار الفائدة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك جدلا كبيرا فى الفكر الاقتصادى حول تأثير أسعار الفائدة على حجم المدخرات إذ أن هناك أثرا استبداليا (إيجابيا) وأثرا سلبيا ممكنا فى نفس الوقت . إذ أنه وعلى الرغم مما تؤدى إليه زيادة أسعار الفائدة من تحفيز للادخار بتغيير التكلفة النسبية للاستهلاك الحالى والمستقبلى وتجعل الاستهلاك فى المستقبل اقل تكلفة بالنسبة للاستهلاك الجارى ( فيما يطلق عليه اثر الاستبدال ) . إلا أنها على الجانب الآخر قد تميل أيضا إلى تقليل الادخار عن طريق خفض مقدار الادخار الحاضر اللازم لشراء مقدار معين من الاستهلاك فى المستقبل (فيما يطلق عليه اثر الدخل ) .واثر الثروة بتغيير القيم الحالية للأصول المالية والعقارية والسلع المعمرة، ثم الأثر الناجم عن التغييرات فى الائتمانات المتاحة وهو ما يتوقف الى حد كبير على وجود مصادر بديلة للأموال ومنها الأسواق الخارجية وعلى قدرة مختلف المقترضين على استخدام هذه المصادر البديلة. من هنا فان زيادة المدخرات تتوقف على عوامل عديدة منها مستوى دخول الأفراد ومدى نمو الوعى الادخارى والمصرفى والعادات الاستهلاكية والاستقرار السياسى ومدى نمو السوقين النقدية والمالية. وهناك اختلاف شديد بشأن الدافع الأساسى للادخار، الأول هو ان الادخار ينبع من الاختيار بين الاستهلاك الحالى والمستقبلي، ويكون سعر الفائدة هو الآلية الرئيسية التى توازن بين الادخار والاستثمار. كما أن التوازن بين الادخار والاستثمار يتم أساس من خلال التحركات فى الدخل مع الاخذ بالحسبان ان مفهوم الدخل الدائم هو الذى يحرك عملية الاستهلاك لمزيد من مقالات عبدالفتاح الجبالى