هل القرن الحادى والعشرون امتداد للقرن العشرين؟ وهل ثمة ظاهرة معبرة عن هذا الامتداد؟ وإذا جاء الجواب بالايجاب فما هى هذه الظاهرة؟ وهل ثمة ظواهر أخرى مدعمة لها؟ وما مدى تأثيرها على مسار هذا القرن؟ دارت فى ذهنى هذه الأسئلة الحادة وأنا أقرأ كتاباً صدر فى عام 2014 عنوانه هو عنوان هذا المقال لعالم بيولوجى أمريكى اسمه دين هايكوك حاصل على زمالة روكفلر ومتخصص فى دراسة « دماغ السيكوباتى القاتل». والسؤال اذن: مَنْ هو هذا السيكوباتى القاتل؟ جوابى عن هذا السؤال لا يبدأ من قراءتى لذلك الكتاب إنما يبدأ من قراءتى لكتاب آخر كنت قد قرأته فى عام صدوره 1949 تحت عنوان «مشكلة السلوك السيكوباتي» ومؤلفه طبيب مصرى اسمه صبرى جرجس إخصائى الأمراض النفسية والعصبية، وأول رئيس لقسم هذه الأمراض بوزارة المعارف. والكتاب من منشورات «جماعة علم النفس التكاملي» التى تأسست فى فبراير 1946 تحت رعاية سمو الأميرة شيوه كار وبرئاسة عالم النفس والفيلسوف أستاذى العظيم يوسف مراد وبمشاركة صديق عمره الدكتور مصطفى زيور الذى كان رئيس عيادة الأمراض العقلية بكلية الطب بباريس، والذى قال فى تصديره لذلك الكتاب «إنه أول بحث ينشر فى اللغة العربية منذ ألَف قدامى أطباء العرب فى البيمارستان». أما المؤلف نفسه فقد قال فى مقدمة كتابه إن مصطلح « السيكوباتية» ورد لأول مرة فى تاريخ القضاء المصرى أثناء محاكمة وزير المالية المصرى الأسبق فى حكومة الوفد ورئيس جمعية الصداقة المصرية البريطانية أمين عثمان الذى اُغتيل فى 5 يناير 1946. وقد قبض على حسين توفيق ورفاقه بمن فيهم أنور السادات. واستدعى الدكتور صبرى جرجس لابداء الرأى الطبي. وقد انتهى الدكتور صبرى جرجس فى رسالته إلى أن السيكوباتى يتميز بنشاط مضاد للمجتمع لكسب وهمى غير محسوس. وهو فى هذا النشاط لا يعرف الندم ولا يحس العار ولا يختبر الشعور بالخطيئة، ولا يعرف الصدق لأنه يكذب دائماً. وفى هذا السياق صدر كتاب هايكوك عن «السيكوباتية» بالتعاون مع أعضاء «جمعية البحث العلمى للشخصية السيكوباتية». إلا أنه لم يكن ينشغل بما يسميه السيكوباتيين القتلة الذين يتميزون بأن القتل هو غايتهم لأن لديهم دافعاً قوياً للسيطرة من أجل أن يكون لهم ضحايا. وفى هذا المعنى تتعدد سماتهم، إذ هم وحشيون، قساة،، لا انسانيون، ومن ثم فلا يعوقهم خوف العقاب ولا وقوعه، ولا يردعهم ما يُلقى على سلوكهم من جزاء. وفى هذا السياق أظن أنه يمكن أن يقال عنهم إن لديهم « عمى قيم» على غرار القول فيما يختص بحاسة البصر بأن لدى البعض «عمى ألوان». وبعد ذلك يثير هايكوك السؤال الآتي: هل الدماغ يؤدى دوراً فى أن يكون الانسان سيكوباتياً؟ وفى صياغة أخري: هل ثمة تدخل من الجهاز العصبى لدفع الانسان إلى أن يكون سيكوباتياً؟ وإذا جاء الجواب بالايجاب فإن هذا يستلزم تعديلاً للقانون الجنائى حتى يمكن أن يقال عن ذلك الانسان السيكوباتى القاتل بأنه غير مسئول جنائياً عما يرتكبه من فعل القتل. والسؤال اذن: وماذا لو كان هذا السيكوباتى المحكوم بجهاز عصبى مختل كان سليماً عقلياً ومن ثم ينعدم القول بوجود قوة قاهرة تدفعه إلى ارتكاب جريمة القتل؟ ومع ذلك فأنا أظن أن هذا السؤال لا يتسق مع «الطب السيكوسوماتي» أى الطب النفسجسمى الذى يؤلف بين الدراسة الجسمية والدراسة النفسية، بمعنى عدم الفصل بين ما هو جسمى وما هو نفسي. وفى هذا المعنى صدرت أول مجلة تعبر عن هذا الطب الجديد 1939 تحت اسم «الطب السيكوسوماتي» وهو عبارة عن دراسة الأوجه السيكلوجية والفسيولوجية فى حالة الصحة والمرض. وقد تزعم الترويج لهذا الطب الجديد فى مصر الدكتور مصطفى زيور، إذ حرر ثلاث دراسات ونشرها ابتداء من صدور أول عدد لمجلة علم النفس فى يونيو 1945. إلا أن الدكتور يوسف مراد أضاف البعد الاجتماعى إلى البعدين الآخرين الجسمى والنفسى فى إطار تأسيسه للمنهج التكاملى والذى بدت ملامحه أثناء دراسته فى جامعة السوربون للحصول على درجة دكتوراه الدولة فى يناير 1940. وإثر ذلك دعا يوسف مراد إلى تأسيس «الطب التكاملي» الذى يؤلف بين ثلاثة عوامل: جسمية ونفسية واجتماعية الأمر الذى يلزم عنه إعادة النظر فى مقررات كلية الطب، بل إعادة النظر فى مفهوم العقل فى إطار بزوغ ظاهرة جديدة فى هذا القرن وهى ظاهرة «الارهاب الكوكبي» الذى يعنى قتل الأبرياء على مستوى كوكب الأرض بدعوى أنهم أعداء للحقيقة المطلقة التى يمثلها ذلك العقل الارهابى استناداً إلى فتاوى دينية تستند إلى آراء الفقيه ابن تيمية من القرن الثالث عشر والوهابية فى القرن الثامن عشر والاخوان المسلمين فى القرن العشرين وما يتفرع عنهما من منظمات ارهابية. ومن هنا يلزم دراسة العلاقة العضوية بين «العقل والارهاب». وقد كانت هذه العلاقة موضع دراسة فى ندوة دولية عقدتُها فى أبو ظبى فى يناير 2003 تحت عنوان «الارهاب والعقل». وجاء فى كلمتى الافتتاحية أن هذه الندوة التاريخية بمشاركة عقول من مختلف البلدان تنشد إلقاء الضوء على جذور الارهاب، وأن عنوانها يشى بأن العقل هو من أهم هذه الجذور. فقد حدث له أمر جدير بالدراسة وهو أنه فى هذا القرن وقع فى وهم قاتل وهو أنه قد امتلك الحقيقة المطلقة. وحيث إن هذه الحقيقة واحدة ولا تقبل التعدد فإن مَنْ يعارضها يستحق التكفير أولاً ثم قتله ثانياً. والسؤال اذن: ماذا حدث للعقل حتى يكون كذلك؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة;