بالأسماء.. الفائزين بمقاعد مجلس النقابة العامة بانتخابات التجديد النصفي للأطباء    محافظ قنا يتفقد مدرسة النهضة الابتدائية بقفط بعد الانتهاء من أعمال رفع الكفاءة    انتخابات النواب: استمرار توافد المرشحين لتقديم أوراقهم في رابع أيام تلقى الأوراق    اعرف أبرز مرشحى الحزب المصري الديمقراطى على المقاعد الفردية بانتخابات النواب    أسعار الفراخ والبيض اليوم السبت 11 أكتوبر 2025 بأسواق الأقصر    بعد انخفاض سعر الذهب في مصر.. تعرف على الأسعار الجديدة اليوم السبت 11-10-2025    المشاط: نتعاون مع البنك الأوروبي لتسريع طرح مشروعات الشراكة    الفيومي: رفع التصنيف الائتماني يزيد من ثقة المستثمرين والمؤسسات المالية العالمية    وكيل وزارة الزراعة بالقليوبية يتفقد عددا من أماكن تجميع قش الأرز    رئيس الوزراء يستعرض الموقف التنفيذي للمشروعات الجاري تنفيذها بمدن ومراكز القليوبية    رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لمشروع التطوير العمراني لعواصم المحافظات    قوات أمريكية تصل إسرائيل للإشراف على اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة    إعلام عبري: حماس بدأت ضرب «أوكار الخونة» المتعاونين مع إسرائيل في غزة    مستشار ترامب: اتفاق شرم الشيخ يفتح باب الأمل لسلام دائم بالمنطقة    الأونروا: لدينا غذاء يكفي غزة 3 أشهر.. ونطالب بالسماح بدخوله فورًا لوقف المجاعة    مصر تنتصر للدبلوماسية وتنهي الحرب في غزة.. نجاح اتفاق شرم الشيخ يؤكد: "السلام أقوى من السلاح"    تعرف على طريقة لعب الدنماركي ياس سورورب مدرب الأهلي الجديد    رونالدو يسعى لإنجاز جديد في مواجهة البرتغال وأيرلندا بتصفيات المونديال    لاعب منتخب السباحة بالزعانف: فرحتي لا توصف بأول ميدالية لي في أول مشاركة ببطولة العالم    الأرجنتين تحبط فنزويلا.. وميسي يظهر في المدرجات    بالأسماء.. إصابة 11 شخصاً إثر اصطدام ميكروباص مع ملاكي بصحراوي البحيرة    معتدل نهارا.. حالة الطقس بمحافظات الصعيد اليوم السبت 11 أكتوبر 2025    بينهم أجانب.. إحباط مخطط تشكيل عصابي لتهريب مخدرات ب127 مليون جنيه للخارج    ضبط مسجل خطر بحوزته سلاح وذخيرة في نجع حمادي    الرئيس السيسى يؤكد التزام مصر بدعم اليونسكو لمد جسور التواصل بين الثقافات والشعوب    إيناس الدغيدي وابنتها وحفيدتها.. 3 أجيال فى صورة سعيدة من عقد قران المخرجة    مهرجان الجونة السينمائي يعرض فيلم «فرانكشتاين» لأول مرة في الشرق الأوسط    التضامن: التعامل مع 184 بلاغًا خلال الأسبوع الأول من شهر أكتوبر لكبار وأطفال بلا مأوى وحالات إنسانية    بدء تشغيل وحدة الكلى الصناعية الجديدة بمستشفى كوم أمبو المركزي في أسوان    كيكة البرتقال الهشة الاقتصادية.. طعم خرافي ومكونات بسيطة من بيتك    فرنسا ضد أذربيجان.. مبابي يغادر معسكر الديوك بسبب الإصابة    مصرع 22 شخصا جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في المكسيك    رئيسة «القومي للطفولة والأمومة»: حماية الفتيات وضمان حقوقهن على أجندة أولويات عمل المجلس    رشاد العرفاوي: محمد صلاح أسطورة عالمية ومبارياتنا مع الأهلي والزمالك عرس كروي    الأونروا: لدينا كمية غذاء تكفى سكان غزة 3 أشهر ويجب إدخال المساعدات    منها «القتل والخطف وحيازة مخدرات».. بدء جلسة محاكمة 15 متهما في قضايا جنائية بالمنيا    «الداخلية»: ضبط 6 أطنان دقيق «مدعم وحر» في حملات تموينية على الأسواق بالمحافظات    تشميع مخزن مواد غذائية بساحل سليم فى أسيوط لمخالفته اشتراطات السلامة    اسعار الدينار الكويتي اليوم السبت 11اكتوبر 2025 فى بداية التعاملات    في عيد ميلاده.. عمرو دياب يحتفل ب40 عامًا من النجومية وقصة اكتشاف لا تُنسى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 11-10-2025 في محافظة الأقصر    مصر تتوّج ب13 ميدالية في منافسات الناشئين ببطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي    «الداخلية» تعلن ضبط 5 شركات غير مرخصة لإلحاق العمالة بالخارج    هل فيتامين سي الحل السحري لنزلات البرد؟.. خبراء يكشفون الحقيقة    الصين تعتزم فرض قيود شاملة على تصدير المعادن الأرضية النادرة    مواقيت الصلاه اليوم السبت 11اكتوبر 2025فى محافظة المنيا    الجمعية المصرية للأدباء والفنانين تحتفل بذكرى نصر أكتوبر في حدث استثنائي    تعرف على فضل صلاة الفجر حاضر    30 دقيقة تأخر على خط «القاهرة - الإسكندرية».. السبت 11 أكتوبر 2025    «رغم زمالكاويتي».. الغندور يتغنى بمدرب الأهلي الجديد بعد الإطاحة بالنحاس    «علي كلاي» يجمع درة وأحمد العوضي في أول تعاون خلال موسم رمضان 2026    ملك زاهر: ذهبت لطبيب نفسي بسبب «مريم»| حوار    فتاوى.. عدة الطلاق أم الوفاة؟!    فتاوى.. بلوجر إشاعة الفاحشة    برد ولا كورونا؟.. كيف تفرق بين الأمراض المتشابهة؟    السرنجاوي: هناك قبول لفكرة التجديد بين الأعضاء في نادي الزهور    متطوعون جدد في قطاع الشباب والرياضة    صحة الدقهلية: فحص أكثر من 65 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إمام التنوير
الشيخ محمد عبده
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 06 - 2017

أعوذ بالله من السياسة من لفظها ومعناها وحروفها ومن كل أرض تذكر فيها ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل فيها، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس، تلك إحدى صرخات الإمام محمد عبده (1849 1905) الغاضبة ضد السياسة التي قادته الي السجن والمنفي وقادت وطنه إلي الاحتلال البريطاني عام 1882 بعد هزيمة عرابي في معركة التل الكبير.
لم يكن الامام محمد عبده مؤيداً، لثورة عرابي منذ البداية، وكان من أنصار التدرج في الاصلاح. وعندما قال له عرابي في مناقشة بينهما إن الوقت قد حان للتخلص من الاستبداد رد عليه الإمام قائلا : علينا أن نهتم بالتربية والتعليم بضع سنين وأن نحمل الحكومة علي العدل بما تستطيع.. ولو فرض أن البلاد مستعدة لان تشارك الحكومة في إدارة شئونها، فطلب ذلك بالقوة العسكرية غير مشروع.. وأري أن الشغب قد يجر الي البلاد احتلالا أجنبيا يستدعي تسجيل اللعنة بسببه الي يوم القيامة فتبسم عرابي ابتسام الساخط كما يذكر الامام في مذكراته وقال : أبذل جهدي في ألا أكون مورد هذه اللعنة.
ولكن رغم هذا الموقف من الثورة إلا أنه إزاء تدفق الاحداث لم يستطع الإمام محمد عبده وهو المصري الغيور إلا أن يأخذ صف الثورة العرابية وبعد أن فشلت دفع الثمن غاليا واتهم بالتآمر وحكم عليه بالسجن ثم النفي ثلاث سنوات فاختار بيروت ورحل إليها سنة1883.
ثم دعاه أستاذه جمال الدين الأفغاني للحاق به في باريس وعملا علي تأسيس جمعية وصحيفة العروة الوثقي لمكافحة التسلط الأجنبي والطغيان الداخلي وتخليص مصر من الاحتلال.
كان الأفغاني هو أهم الشخصيات التي غيرت مصير ومسيرة الإمام محمد عبده. فلم يكن الإمام سعيدا بدراسته في الأزهر الذي قضي فيه ثلاث سنوات دون أن يجني منه أي فائدة فتركه بعد أن كره التعليم والمصطلحات النحوية والفقهية التي كان المدرسون يفشلون في شرح معانيها «هربت» من الدروس واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر حتي عثر علي أخي، وأراد إكراهي علي العلم فرفضت وعدت إلي بلدتي محلة نصر بالبحيرة وتزوجت علي هذه النية. وكان عمره 16 سنة.
وبعد أن تزوجت بأربعين يوما جاءني والدي صحوة نهار وألزمني الذهاب إلي طنطا وطلب العلم.. ولكنني ذهبت إلي بلدة أخوال أبي لألعب وألهو مع شباب القرية وكنت معروفا بالفروسية واللعب بالسلاح.
فقابلت الشيخ درويش أحد أخوال أبي الذي قرأ علي بعض معارف الصوفية وآداب النفس وترويضها علي مكارم الأخلاق، فأخرجني هذا الشيخ من حجم الجهل إلي فضاء المعرفة ومن قيود التعليم إلي اطلاق التوحيد.
وهذا الرجل مفتاح سعادتي إن كانت لي سعادة في هذه الحياة الدنيا، وذهبت إلي طنطا قرب آخر السنة الدراسية، وهناك رأيت شخصا ممن يسمونهم المجاذيب قال ما معناه: ما أحلي حلاوة مصر البيضاء
فقلت له: وأين الحلوي التي معك؟
قال سبحان الله من جد وجد.. ثم انصرف فعددت ذلك إلهاما ساقه الله ليحملني علي طلب العلم في مصر دون طنطا.
وذهبت للأزهر وداومت علي طلب العلم من شيوخه مع محافظتي علي العزلة والبعد عن الناس حتي كنت أستغفر الله إذا كلمت شخصا لغير ضرورة.
وكنت كلما ذهبت لبلدتي أجد الشيخ درويش سبقني إليها. وكل سنة يسألني: هل درست المنطق أو الهندسة والحساب؟ فأقول له هذه العلوم غير معروفة بالازهر.
فيقول: طالب العلم لايعجز عن تحصيله في أي مكان وكنت أعود للقاهرة التمس هذه العلوم في أي مكان حتي جاء المرحوم جمال الدين الأفغاتي إلي مصر 1871 فأخذت أتلقي عنده العلوم الرياضية والفلسفية والكلامية وأدعو الناس إليه. وأخذ مشايخ الأزهر وطلبته يتقولون علينا الأقاويل، ويزعمون أن تلقي تلك العلوم يفضي إلي زعزعة العقائد الصحيحة.
لم يهتم الامام محمد عبده بتلك الأقاويل كما يذكر في كتابه عن الأفغاني وكنت ألازم «السيد» ملازمة ظله، وأحضر دروسه ونادية وسامره. وكانت كلها مجالس علم وحكمة وأدب ودين وسياسة. وظل الوضع كذلك حتي قام الخديو توفيق بنفي الأفغاني من مصر عام 1879 بعد أن كان يحضر دروسه. بل قال له «أنت أملي في مصر أيها السيد» وبعدها تم عزل الإمام من مناصب التدريس وحددت إقامته بقرية مجلة مصر التي ولد فيها.
كان محمد عبده تقدم لامتحان العالمية بالأزهر وظفر بالشهادة عام 1877رغم دعوته للتجديد وترك التقليد. وبعدها أصبح استاذا للتاريخ في مدرسة دار العلوم واستاذا للآدب في مدرسة الألسن إلي جانب دروسه في الأزهر. وعندما تولي رياض باشا رئاسة الوزراء إستصدر عفوا من الخديو واستدعاءه من قريته عام 1880 وعهد إليه برئاسة تحرير جريدة الوقائع. وقد كان إعجابه برياض باشا والاصلاحات التي قام بها وراء موقفه المعارض للثورة العرابية في البداية.. ولكن تلاحق الأحداث لم يترك له فرصة طويلة للعمل بالصحافة والسياسة. لانه سريعا ما سجن ونفي إلي بيروت بعد تأييده للثورة.
العودة من المنفي
تدخلت الأميرة نازلي فاضل لدي اللورد كرومر للعفو عن الإمام بعد إلحاح من سعد زغلول تلميذ محمد عبده ووافق كرومر بشرط ألا يعمل بالسياسة.
وبالفعل عاد محمد عبده إلي مصر عام 1888 وسكن في شارع الشيخ ريحان بالقرب من قصر عابدين «حتي يناطح عابدين مناطحة» علي حد قوله.
ورفض الخديو توفيق أن يعيده للتدريس فيكون له تلاميذ مرة أخري وعينه قاضيا بمحكمة بنها حتي يبعده عن القاهرة وفي هذه الفترة حدثت جفوة بينه وبين أستاذه الأفغاني بعد مراسلات بينهما ويذكر الدكتور محمد عمارة في كتابه تجديد الفكر الاسلامي أن الأفغاني اتهمه بالجبن وكتب إليه مرة يقول تكتب إلي ولا تمضي.. وتعقد الألغاز؟!
كن فيلسوفا يري العالم ألعوبة ولا تكن حبيبا هلوعا؟!
كان الخلاف بين الأفغاني الثوري ومحمد عبده المصلح هو خلاف في طريق الاصلاح والنهوض بالوطن، فالأفغاني من أنصار الثورة ضد الاستبداد والقهر مثل عرابي.. بينما الامام رجل إصلاح وتفكير يريد تغيير المجتمع واصلاحه بالتدريج عن طريق التعليم ومواجهة الجمود والتخلف، وكان يقول عن نفسه خلقت لأكون معلما.
وبعد تولي الخديو عباس حلمي السلطة عقب وفاة توفيق حدثت فترة من الوفاق وأقنع الخديو الجديد باصلاح الأزهر.
وتشكل مجلس إدارة للأزهر وأصبح الامام عضوا فيه، فوضع مشروعا للاصلاح وهاجم الخضوع الأعمي للسلطة ودعا إلي التفكير الناقد وإلي استخدام العقل والاجتهاد، وعمل بكل جهده لتطوير التعليم بالأزهر. وواجه مشايخ كانوا يعتبرون دراسة «الجغرافيا» وأمثالها بدعا تدخل في باب الضلالات التي تؤدي إلي النار.
ودار بينه وبين الشيخ محمد البحيري في أحد اجتماعات مجلس ادارة الأزهر حوار حول اصلاح التعليم بالأزهر.
قال الشيخ البحيري:
إننا نعلمهم كما تعلمنا.
فأجابه الامام: وهذا هو الذي أخاف منه!
فرد البحيري: ألم تتعلم أنت في الأزهر؟! وقد بلغت ما بلغت من مراقي العلم، وصرت فيه العلم الفرد؟
فأجابه الامام: إن كان لي من العلم الصحيح الذي تذكر فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين.. وهو إلي الآن لم يبلغ ما أريده!
وإستطاع الامام أن يحقق بعض النجاح في خطته وأن يقوم ببعض الاصلاحات وأن يجعل الحساب والجبر ضمن مناهج التعليم بالأزهر.
كما طالب بدراسة الفلسفة وقال إن في مصر قضاة ومحامين وأطباء محترفين، لكنك لاتري في الطبقة المتعلمة الرجل الباحث ولا المفكر ولا الفيلسوف ولا العالم لاتري الرجل ذا العقل الواسع والنفس العالية والشعور الكريم. ذلك الذي يري حياته كلها في مثل أعلي يطمح فيه ويسمو إليه.
ولذلك اعتبره الدكتور عثمان أمين فيلسوفا يراسل الفلاسفة الأوروبيين مثل هربرت سبنسر وتولستوي وجوستاف لوبون، وترجم لسبنسر كتابه «التربية» وعندما زار انجلترا تحدث مع الفيلسوف الانجليزي أحاديث فلسفية عن الله والعالم وطغيان المادية وحكم القوة الغاشمة.
وكالعادة حدث الخلاف بينه وبين الخديو عباس ومال الخديو ناحية المحافظين أعداء التجديد فاستقال الامام من مجلس ادارة الأزهر.
مفتي العقل والاجتهاد
رغم كل الطعنات التي تلقاها فقد ساقت الأقدار الامام محمد عبده إلي منصب مفتي الديار المصرية عام 9981 فأضفي علي المنصب سناء وبهاء لاعهد للناس بهما من قبل.
واتسمت فتاوي الأستاذ الامام بالميل إلي التسامح واستقلال الرأي والبعد عن التقليد والملاءمة بين روح الاسلام ومطالب الحياة العصرية: كما يقول تشالز ادمس في كتابه «الاسلام والتجديد في مصر».
كان الإمام محمد عبده يقول: «إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل«.. ولكل مسلم أن يفهم عن الله، من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف».
فالاسلام لا يوجد به سلطة دينية، ولم يجعل للقاضي أو المفتي «وهو كان مفتيا للديار المصرية» أو لشيخ الإسلام أدني سلطة علي العقائد وتقرير الاحكام.
وهو يرفض الخلط بين الدين والسياسة ويقول «من الضلال القول بتوحيد الإسلام بين السلطتين الدينية والمدنية فهذه الفكرة خطأ محض، ودخيله علي الاسلام، ومن الخطأ الزعم بأن السلطان هو مقرر الدين وواضع أحكامه ومنفذها وأن المسلم مستعيد لسلطاته، والانسان لم يخلق ليقاد بالزمام بل فطر علي أن يهتدي بالعلم».
والاجتهاد يجب أن ينبع من حالة العصر ويعبر عنه، وليس هناك أي إجتهاد يلزم المسلم في جميع العصور ، فمتي انقضي العصر وزالت مقتضياته، زال معها ما يخصه من الاجتهاد، وما رافقه من الأحكام وعلي المسلم أن يتبصر دائما بالقرآن والسنة، ويجتهد في أعماله وأفكاره بما يلائم عصره الذي يعيش فيه، وعليه ألا يتحرج من الاختلاف بين ما يصل إليه باجتهاده وعقله، وبين ما وصل إليه السابقون من المسلمين».
واستخدم نهجه العقلاني في تفسير القرآن «ككتاب دين» واستنكر موقف الذين يبحثون عن حقائق العلوم الطبيعية في القرآن.
وكما ذكر في أعماله الكاملة «ليس من وظائف الرسل عمل المدرسين ومعلمي الصناعات وتعليم التاريخ، ولا تفصيل لما يحتويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكن من طبقات الأرض، ولا مقادير الطول فيها والعرض، ولا ماتحتاج إليه النباتات في نموها، والحيوانات في أنواعها، أما ما ورد من كلام الأنبياء من الاشارة اليها فإنما يقصد منه النظر إلي ما فيه الدلالة علي حكمة مبدعة أو توجيه الفكر إلي القول لادراك اسراره وبدائعه.
«وليس في القرآن شئ من التاريخ، من حيث هو قصص وأخبار الأمم والبلاد، وإنما هي الآيات والعبر تجلت في سياق الوقائع بين الرسل وأقوالهم لبيان سنن الله فيهم.. فليس القرآن تاريخا ولا قصصا، وانما هداية وموعظة».
والاسلام دين العقل والرسول يقول » العقل أصل ديني وعلي هذا الطريق يقول الامام محمد عبده إن العقل من أجل القوي، بل هو قوة القوي الانسانية وعمادها، والكون جميعه هو صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وليس هناك صفحات في هذا الكون محظور علي العقل الانساني أن يطالعها ويري فيها ما يراه، ذلك أن الحدود التي تحدد نطاق النظر العقلي هي حدود »الفطرة« لا »النصوص المأثورة« فالعقل من أفضل القوي الانسانية بل هو أفضلها علي الإطلاق.
وإذا كانت هذه آراء الإمام وطريقته في التفكير الحر فمن الطبيعي أن تكون الفتاوي التي تصدر عنه معبرة عن روح العصر والتقدم، فأفتي بجواز التصوير الفوتوغرافي وإقامة التماثيل وجواز أكل ذبائح المسيحيين واليهود، والسماح للمسلم بارتداءه الزي الأوروبي، وارتداد القبعة، وإجاز فائدة البنوك، وجواز التأمين علي الحياة وعلي الممتلكات.
هذه الفتاوي التي ربما تبتسم ونحن نقرأها الآن كانت بمثابة ثورة في التفكير والاجتهاد لا يقدر علي القيام بها غير الامام.. ثم مالنا نضحك بشدة وكأنه لا يوجد بيننا الآن من يحرمون فوائد البنوك والتماثيل!
البحث عن المستبد العادل
مثلما عمل علي تجديد الفكر الاسلامي فإنه كان داعية للحكم المستنير القائم علي الشوري والعدل، ولكن بعد اخفاق تجربة عرابي الثورية، ومعارضة الحكام من أسرة محمد علي للحكم البرلماني. فقد نادي المستبد العادل، فإذا كان كل حكام مصر والشرق مستبدين فالأمل أن يأتي من هؤلاء المستبدين حاكم عادل ينتشل الشرق من حالة الضعف إلي القوة من التخلف إلي رحابة التقدم والحضارة.
كان يقول »لن ينهض الشرق إلا بالمستبد العادل«.. »هل يعدم الشرق كله مستبدا من أهله عادلا« في قومه، يتمكن به العدل أن يصنع في خمسة عشر سنة ما لا يصنع العقل في خمس عشرة قرنا«. فهو كان يري أن الحكام هم أقدر الناس علي انتشال الأمة مما سقطت فيه، لكن هؤلاء الحكام علي حد قوله لم يفهموا من معني الحكم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم، وإذلال النفوس لخشونة سلطانهم، وابتزاز الأموال لانفاقها في إرضاء شهواتهم، لا يرعون في ذلك عدلا ولا يستشيرون كتابا ولا يتبعون سنة، حتي أفسدوا أخلاق الكافة بما حملوها علي النفاق والكذب، والاقتداء بهم في الظلم، وما يتبع ذلك من الخصال التي ما فشت في أمة إلا حل بها العذاب.. وتلك علة من أشد العلل فتكا بالأرواح والعقول.
وهولم ينخدع بحكم الخلفاء الأمويين والعباسيين الذي قام علي الاستبداد والقهر مع خداع العامة والبسطاء بأنه حكم ديني.
وأكثر من ذلك فقد وصف الامام محمد عبده الفتوحات الإسلامية بأنها أعمال سياسية حربية تتعلق بضرورات الملك ومقتضيات السياسة ومن ثم فهي ليست بالحروب الدينية.. كما أن الحرب بين الأمويين والهاشميين هي حرب علي الخلافة وهي بالسياسة أشبه بل هي أصل السياسة.
وهاجم هؤلاء الخلفاء المستبدين قائلا: استبد هؤلاء وأمثالهم بالمسلمين وقادوهم إلي الحروب والهلاك في سبيل بناء امبراطورياتهم المزعومة.. وقد كانوا مع رعاياهم يضلونهم ويحجبون عنهم مسالك النور باسم الدين ويذلونهم ويضيقون علي عقولهم ويحرمون عليهم النظر في السياسة فصاروا لا يرون من وراء ذلك مرجعا وخاصة في المسائل السياسية الخاصة، وبذلك قضوا علي قوي البحث والفكر مما أصاب المسلمين بالشلل في التفكير السياسي والنظر في كل مايتصل بشأن الحكم.
وكشف خطة هؤلاء المستبدين في خداع العامة والبسطاء باسم الدين قائلا: «أدخلوا علي الدين ما ليس فيه ونجحوا في إقناع العامة وهم عون الغاشم بتعظيم الاحتفالات وأعياد الأولياء، حتي يقف الفكر وتجمد العقول، ثم بثوا أعوانهم في الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار ما يقنع الناس بأنه لا نظر لهم في الأمور العامة وأن أمور الدولة تخص الحكام وحدهم وأن ما يظهر من فساد ليس من صنع الحكام وإنما تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان وإنه لا حيلة في الإصلاح، والأسلم تفويض ذلك إلي الله.
ويقول: إنهم وجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم علي بث هذه الأوهام، وانتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين اتخذوا من عقيدة القدر مثبطا للعزائم وغلا للأيدي عن العمل..
وهذه سياسة الظلمة والمستبدين التي أدخلت علي الدين ما ليس فيه وحفظت من أعمال الاسلام فقط صورة الصلاة والصوم والحج فتحول الدين إلي طقوس شكلية لا تنفذ إلي جوهر العدل والرحمة والايثار والاخلاص والشرف.
كلام لا يقوله إلا إمام لا يخشي في الحق أحدا، ولذلك قال جمال الدين الأفغاني لمن ودعوه وهو يغادر مصر.. لقد تركت لكم الشيخ محمد عبده وكفي به لمصر عالما. أما الخديو عباس فكان يقول عنه: «إنه يدخل علي كأنه فرعون!».
ولشدة الاعتزاز بالنفس كان الأفغاني يقول للامام: قل لي بالله.. أي ابناء الملوك أنت!
أجب أيها الإمام الرائع، وقل لهم إنني ابن النيل والأرض السمراء.. ابن الاسلام النقي ومكارم الأخلاق.. أنا ابن العدل والتوحيد.. ابن الحضارة الانسانية التي تبحث عن الانسان في أي مكان.. قل لهم لعلهم يدركون إن الإسلام هو ذلك.. قل لعلهم يفهمون يا سيدي.. قل ولا تيأس فكلنا آذان صاغية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.