ثعبان ضخم متعدد الرءوس، أدمن شرب دماء الناس واستطاب مذاق أكبادهم حتى النشوة، أزهق أرواح الألوف من البشر، حتى عجزوا عن مواجهته، إنه وحش «الهيدرا» الذى أفاضت الأسطورة الإغريقية فى وصف خطورته وعنفه ودمويته، كلما قطعت له رأسا نبت بدلا منه رأسان ينفثان السموم والهلاك، حتى قضى عليه البطل الأسطورى «هرقل»، بحيلة ماكرة..! لو أسقطنا هذه «الميثولوجيا» على واقع مجتمعنا اليوم، فإننا سنكتشف آلاف الرءوس السامة القاتلة فى الهيدرا المصرية، إنها وحش الفساد الهائل المتسربل بدماء الغالبية الكادحة من الشعب.. طوفان من النهب المنظم لأراضى الدولة وأصولها والرشاوى وخراب الذمم فى المحليات والمصالح والأجهزة الحكومية، واقع مفزع يتفرع منه وحوش أصغر، مثل الإرهاب والمخدرات وتدهور الخدمات فى الصحة والتعليم والمستوى المعيشى للأغلبية الساحقة من المواطنين، كل مظهر من مظاهر وأشكال الفساد تشكل رأسا من رءوسه السامة، كلما قطع رأس برز آخران أشد وحشية. طيلة أربعين عاما مضت، سقطت أراضي الدولة، فى قبضة أباطرة الفساد، تعدوا بفجاجة على ملايين الأفدنة، تفننوا فى تكوين ثروات حرام بمئات المليارات، بمساعدة مسئولين تربحوا نظير تسهيل السيطرة عليها أو التغاضى عنها، بوضع اليد أو التواطؤ أو خلافه، ليس غريبا أن ينهب رموز نظام مبارك ورجال أعمال مقربون منه مساحات شاسعة من أملاك الدولة- أضف إلى ذلك عمليات الخصخصة- فساد مقنن في ظل مئات القوانين المنظمة للتصرف في الأراضي، وتعدد الوزارات والهيئات التي لها حق الوصاية عليها، وتداخل اختصاصاتها مع صلاحيات المحافظين.. أخذ القانون إجازة مديدة، لأن «ترزيته» تعمدوا ترك ثغرات، يستغلونها فى تمرير النهب والفساد والسرقة، بل إن جهات رسمية كان لها نصيب من المال السايب.. أهدر النظام ثروات البلد، أهداها على طبق من فضة لأصحاب الحظوة والسفاحين..استمر التواطؤ على حلب البقرة حتى شارفت الموت، ولا أحد لديه حافز لإفساد «الحفلة»، وكانت الأراضى المنهوبة هى «الكرزة على قطعة الجاتوه»، بينما سقط 40% من الشعب تحت خط الفقر، وتدهورت أحواله اقتصاديا واجتماعيا، من سيئ لأسوأ على مدى عقود..! هذا الوضع المنحرف شكّل قلب «الهيدرا» الذى يغذى الرءوس ويعطيها ترياق الحياة، لتعاود النمو كلما قطع أحدها، إلى أن أصدر الرئيس السيسى -خلال افتتاحه مجموعة من المشروعات التنموية فى قنا- أمرا حاسما للقوات المسلحة والشرطة لاسترداد أراضى الدولة من واضعى اليد، فى جميع المحافظات، بغضون نهاية الشهر الحالى، لكن الحيتان لم يرفعوا الراية البيضاء، إنما أظهروا مقاومة سافرة، وهددوا وتوعدوا وحركوا أذرعهم الإعلامية والمالية والسياسية لإفراغ القرار من مضمونه.. استشعر السيسى خطورة مساعيهم، فأعلن من دمياط التحدى الكامل لهم، والتصدى لشرورهم، وقالها صريحة قاطعة: »من ينهب أرض مصر.. لص حرامى مغتصب«، فلا تراجع ولا استسلام عن الهدف العزيز المنشود. عن نفسى، أرى أن هذا أهم قرار اتخذه الرئيس السيسى حتى الآن، لقى تأييدا جماهيريا واسعا، وانعكس إيجابا على شعبيته - تأثرث الفترة الماضية، بسبب القرارات الاقتصادية- قرار شجاع للغاية، كفيل بتغيير وجه الحياة فى مصر للأفضل واستعادة هيبة الدولة، لو طبق دون استثناءات إنه محاولة لقطع رءوس وحش »الهيدرا« التى سممت حياة المصريين وأفقرتهم.. تشير التقديرات إلى أن إعادة طرح الأراضى تتجاوز »تريليون جنيه«، مبلغ يضع أقدام المحروسة على أعتاب الحداثة والازدهار، لو استثمر فى مشروعات صناعية وإنتاجية للسوق المحلية والتصدير، التنمية الحقيقية لا تقتصر على المشروعات القومية -برغم أهميتها- أو توفير السلع في مجتمع ريعيّ، أوانتظار المساعدات الأجنبية بشروطها المريرة، إنما مقياس التنمية هو بناء مجتمع عامل منتج متعلّم، ومراكمة مهارات ومعارف وتكنولوجيات، وترسيخ نظام اقتصادي رشيد متكامل، يقوم على عدالة توزيع الأعباء والمنافع بين الطبقات. اقتحام »عش الدبابير« مهمة عسيرة، برغم جهود »هيئة الرقابة الإدارية« المشكورة، فقد تغلغل الفساد فى مفاصل الدولة، برعاية أباطرة الفساد، ومن ثم يتوجب سد الثغرات وتغليظ العقوبات وفتح ملفات كل من استحل نهب أقوات الشعب وأراضيه، مصدر الثروة ومستودع القيمة الأول ببلادنا، ولو كان الأمر بيدى لعاقبتهم بتهمة »الخيانة العظمى«. المعركة ستكون خطيرة وطويلة، وتحتاج لتجييش كل القدرات فى الميدان، لأن وحش الفساد »الهيدرا« وفق الأسطورة- يقاوم الموت ويهاجم بقدرة شيطانية إلى ما لا نهاية، يمتلك إلى جانب عشرات الرءوس مئات المخالب، قطعها «هرقل» واحدا واحدا ثم أحرقها بالنار ليمنع نموها..! [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن;