يرى بعض فلاسفة التاريخ غير التقليديين ان الجغرافيا هى التى توجه سهم بوصلة التاريخ، ومنهم من ذهب الى ما هو أبعد فقال ان التاريخ قد تخثّر وتصلّب واصبح جغرافيا محايدة، فهى سواء تعلقت بما كان يسمى الثغور فى الماضى او بالمواقع الاستراتيجية الان لها طغيان وديكتاتورية تملى شروطها، وما اعنيه بالتوائم، بدءا من الدول التى تقتسم نهرا او تلك التى انقسمت لمختلف الاسباب وفى مقدمتها الهزائم العسكرية مثل المانيا بعد الحرب العالمية الثانية التى شطرها السور الايديولوجى الى بلدين بثقافتين كل واحدة منهما على النقيض من الاخرى، حتى آخر محاولات تقسيم البلدان خصوصا فى العالم العربى هو الصراع الذى تغذيه عوامل ومفاعيل سياسية راديكالية بحيث يبدو ما قاله الشاعر العربى الجاهلى طرفة بن العبد عن ظلم ذوى القربى الاشد مضاضة كما لو انه المفتاح السحرى الذى يفتض الاقفال كلها، فالصراع بين الكوريتين الشمالية والجنوبية بلغ ذروته الاولى فى حرب اعقبت الحرب العالمية الثانية، وهذا ما حدث على امتداد عقود بين اليمنين الشمالى والجنوبي، ثم تكرر وان بصيغة مختلفة بين شمال السودان وجنوبه، ولا يخرج النزاع بين حركة فتح وحماس فى فلسطين رغم وقوع التوأمين تحت نير الاحتلال عن هذا السياق . ولم تكن الحرب الاهلية التى قضمت الاخضر واليابس لأكثر من ربع قرن فى لبنان الا ذروة الاشتباك بين نصفى العاصمة، أو التوأمين بحيث اصبحت مصطلحات جغرافية من طراز بيروتالشرقيةوبيروتالغربية مرادفا عربيا لما حدث فى برلين , والسؤال هو لماذا يكون النزاع عنيفا والحرب ضارية بين التوائم، اى بين الاطراف التى اقتسمت وطنا واحدا، وحوّلته الى كسور عشرية تبعا لخطوط طول وعرض طائفية او عرقية او جهوية ؟ والرهان الاستعمارى على تقسيم الوطن العربى مجددا وفى طبعة حديثة ومنقحة من سايكس بيكو يستهدف اصطناع حروب أهلية، يكون وقودها من ابناء الوطن الواحد، والهزيمة فيها مقسمة بالتساوى بين الخصمين حيث لا وجود او معنى لأى انتصار ! ورغم ان العالم، احتفل بهدم سور برلين وتبادل الناس قطعا منه فى بطاقات المعايدة، الا أن زمن الاسوار لم ينته بعد، لأن هناك جدرانا تُبنى فى فلسطين وبين امريكا والمكسيك وحاول بعض الغلاة من المتنازعين فى العراق بناء جدار فاصل بين الاعظمية والكاظمية وهما أيضا توأمان عراقيان افترقا طائفيا ! والاسوار على ما يبدو ليست من حجر وحديد واسمنت كما هو لسور الصين فهى أحيانا سياسية وثقافية لكنها مسلحة بالايديولوجيا بدلا من الحديد والجدران التى تشيّد فى الرؤوس والوجدان اشد فصلا وخطرا من تلك التى تشيد بالحجر لأنها غير قابلة للهدم والتقويض كما حدث سور برلين . وأذكر ان الاستاذ هيكل قدم احصائية ذات بُعد كارثى عن عدد العرب الذين كانوا ضحايا الحروب مع اسرائيل لأن عددهم اقل بأضعاف من عدد الذين ذهبوا ضحية صراعات وحروب أهلية وبينيّة ! فلماذا تكون الصراعات أشدّ دموية وراديكالية بين التوائم ؟ وهل هناك تجليات سياسية لرواية ديستويفسكى الشهيرة الاخوة كروموزوف ؟ ام ان صراع التوائم بدأ منذ هابيل وقابيل، ثم بلغ هذا الحد من العنف فى بعض الاقطار العربية التى أضافت الى سايكس بيكو متوالية انشطارية كان ضحيتها الوطن ذاته والهوية الام ؟ أن مقولة الشاعر العربى عن ظلم ذوى القربى لم تكن وليدة خيال شعري، لأن ما يسمى أيام العرب هو سجل دموى حافل بحروب ذوى القربى الى الحدّ الذى قال فيه شاعر جاهلى انه ان لم يجد من يغزوه ليلا فسوف يتوجه الى دار شقيقه واسمه بكر كى يغزوه ! ومن المفارقات التى سوف تستوقف مؤرخى المستقبل ان سايكس بيكو التى اشتكى منها العرب قرنا من الزمان وتصوروا انها حالت دون الالتئام القومى اصبحت الان مطلبا تاريخيا ووطنيا، فالمطلوب هو وحدة البلد هذه المرة، بحيث يبقى العراق عراقا والسودان سودانا واليمن يمنا ولبنان لبنانا الى آخر القائمة، وهنا نتذكر ما قاله الشاعر اللبنانى خليل حاوى الذى انتحر واصطاد قلبه ببندقية صيد حين شاهد اجتياح بيروت، قال انهم يسعون الى تفسيخ مياه البحر كى يصبوه فى جرار وزجاجات من اجل ان يفقد تياره وامواجه وعنفوانه، وهذا ما حدث بالفعل بصور مختلفة، فالعمل على اشده لتدجين البحر والصحراء معا، ونقل مصطلح الخصخصة من السوق ومعجم الاقتصاد الى الهويات والذاكرات والمصائر الجمعية ! واذا كانت استراتيجية فرّق تسد التى مورست ميدانيا فى الحقبة الكولونيالية قد وجدت مصدّات قومية وثقافية فإن استراتيجية تشطير البلد العربى الواحد لا تجد الان من المصدات ما يكفى لاجهاضها. فما ان يتصدع سقف الدولة او تتعرض للتفكيك حتى تظهر البومة الهيجلية فى الافق منذرة بتحويل الحارات والطوائف الى اوطان ذات اناشيد واعلام، وما تردد فى مصر قبل ستة اعوام كان مثالا لهذا الوصفة الشيطانية فى التقسيم وخصخصة الهوية، لكنه انتهى الى امثولة فى الفشل بعد ان استدعت الدولة احتياطياتها التاريخية والثقافية والبشرية وتماسكت ! وقد يكون ما سمى من خلال اصطناع معادل عربى للحراكات الاوروبية فى القرن التاسع عشر بالربيع العربى اختبارا لقياس منسوب التماسك او الارتخاء فى الدول العربية، وذلك تمهيدا لتجريب الطبعة الثانية من سايكس بيكو التى تتلخص فى متوالية الانشطار التى تحذف آخر مشترك قومى بين عرب الالفية الثالثة!! لهذا استهدفت الجامعة العربية باعتبارها آخر القلاع عدة مرات وتعرضت للتشكيك فى جدوى استمرارها اضافة الى ما عانته وتعانيه من أزمات مالية تنعكس على العاملين فيها، وما كتبه شمعون بيريز عن الشرق الاوسط الجديد كمقدمة لما سمى فيما بعد الكبير كان محاولة لابطال مفعول الجامعة، وتمهيدا لاختراقها بحيث تجد اسرائيل فيها مجالا للتلاعب باطارها القومى وجعلها مجرد سياق اقتصادى منزوع الهوية والفاعلية السياسية، وما لم يسارع العرب وبالتحديد من بقى على قيد الدولة والهوية معا الى تدارك متوالية الانشطار فإن آخر مُشترك قومى سيكون فى مهب عواصف العولمة والتهويد والطرد من التاريخ !! لمزيد من مقالات خيرى منصور;