انتهت الحكومة المصرية وبعثة صندوق النقد الدولى من التوصل إلى اتفاق مبدئى على مستوى الخبراء بشأن المراجعة الأولى لبرنامج الإصلاح الاقتصادى المصرى ، والخطوة التالية هى عرض تقرير البعثة على المجلس التنفيذى للصندوق تمهيداً حال موافقته لصرف الشريحة الثانية من قرضه لمصر بقيمة مليار وربع مليار دولار ، وهو ما يعنى أن بعثة الصندوق راضية عن تطبيق مصر برنامجها للإصلاح الاقتصادى وأن المرحلة المقبلة من قرارات تخفيض الدعم آتية لا ريب فيها ، ولا شك أن ثمة تطورات تشير إلى تحسن فى المؤشرات الكلية للاقتصاد المصرى كما فى تخفيض العجز فى ميزان المدفوعات والميزان التجارى والزيادة الكبيرة فى حصيلة البنوك من العملة الصعبة وارتفاع الاحتياطى النقدى بالعملة الصعبة ، غير أن المشكلة أن التكلفة الاجتماعية لقرارات الإصلاح الاقتصادى كانت مرتفعة للغاية ليس بالضرورة بسبب قرارات الإصلاح فى ذاتها وإنما نتيجة الجشع غير العادى للتجار ومقدمى الخدمات والضعف البين للجهاز الحكومى فى مواجهة هذه الظاهرة ، وإذا كان ارتفاع أسعار بعض السلع مفهوماً باعتبار أنها مستوردة بالدولار الذى تم تحرير سعر صرفه فوصل إلى أكثر من ضعفه فإن ارتفاع سلع أخرى كثيرة لا يستند إلى أى أساس إلا الجشع وغياب الرقابة ، ومن المضحك المبكى أن بعض المنتجين والتجار قد التفوا حول رفع الأسعار بتثبيت سعر السلعة وإنقاص كميتها أو تخفيض نوعيتها ، وهكذا تُرك المواطن فريسة لهؤلاء بلا رحمة ووصل مستوى معيشة الطبقتين الفقيرة والمتوسطة إلى تدنٍ غير مسبوق ، وقد لفتنى أن الرئيس فى جولته الأخيرة فى صعيد مصر قد استخدم تعبير «الناس مش لاقية تاكل» فى أثناء تعبيره عن غضبه من مافيا الأراضى التى تستحل الاستيلاء على أراضى الدولة وهو ما يعنى أنه يشعر بهذه المعضلة تماماً . وتتمثل هذه المعضلة فى أن مسيرة الإصلاح يجب أن تستمر غير أن ثمة شكوكاً تكاد تصل إلى مرتبة اليقين فى أن يكون بمقدور الفقراء ومتوسطى الدخل أن يتحملوا المزيد من قرارات الاصلاح ، وعلى سبيل المثال فقد بدأت التصريحات من هنا وهناك من مصادر مسئولة ترفض كالعادة الكشف عن نفسها تفيد بأن ثمة زيادة جديدة فى أسعار الوقود ستدخل حيز التنفيذ أواخر يوليو أو أوائل أغسطس القادمين وأن نسبة هذه الزيادة سوف تتراوح بين 25٪ و 40٪ ، كذلك فإن ثمة حديثاً منسوباً لوزير الكهرباء عن زيادة قادمة من المتوقع أن تُعلن خلال الفترة المقبلة وغير ذلك ، والمشكلة أن الشعار المرفوع هو أنه ليس لدى الحكومة خيار آخر وإلا فإن فاتورة الدعم ستصل إلى آفاق غير مسبوقة بسبب تعويم الجنيه وهو ما يعنى أن الإصلاح بغض النظر عن ضرورته هو فى حد ذاته سبب لنشوء مشكلات جديدة مالم يتم تدارك التداعيات السلبية لقراراته ، ومن الأمور التى تدفع إلى شيء من الاطمئنان أن الدوائر الحكومية تدرك خطورة الأوضاع وبالتالى صرح وزير الكهرباء على سبيل المثال بأن زيادة أسعار الكهرباء ستكون طفيفة ولن يشعر بها محدودو الدخل وهو حديث مطمئن نسبياً لكن القلق يأتى من الكيفية التى يتصور بها وزير الكهرباء ما يمكن أن يشعر به أو لا يشعر محدودو الدخل ، أما الزيادة فى أسعار الوقود بالنسب التى سبقت الإشارة إليها حتى ولو فى حدها الأدنى فلابد وأن تؤدى بالطريقة المعتادة من واقع السوابق الماضية إلى ارتفاع لا يتسق معها فى الأسعار فى تكلفة النقل وأسعار السلع فى غياب أى رقابة حقيقية . لا يمكن لأحد أن يعترض على استكمال مسيرة الإصلاح فقد تحملت الطبقات الفقيرة والمتوسطة من الأعباء ما يجعل من الصعوبة بمكان أن تتوقف المسيرة قبل جنى الثمار لكن الاعتراض على أسلوب إدارته ، فعلى جداول الإصلاح أن تتمهل زمنياً وتُرَشٌد إنسانياً حتى يمكن أن يتواصل دون هزات نحن فى غنى عنها لأنه لا إصلاح أصلاً بدون استقرار سياسي، وعلى سبيل المثال فإنه بدلاً من القول بأن زيادات أسعار الكهرباء لن يشعر بها محدودو الدخل فإن هذه الزيادات يجب ألا تُفرض عليهم أصلاً بينما يجب أن يتحملها الموسرون أى أن الزيادات يجب أن يكون لها توجه اجتماعى ، وإذا طبقنا هذا المبدأ على الزيادة المرتقبة فى أسعار الطاقة فإن هذه الزيادة يجب ألا تقترب أصلاً من الوقود المستخدم فى نقل الركاب والسلع لأن تبعات هذا النوع من الزيادات على تكلفة النقل وأسعار السلع هائلة ، ولابد أيضاً من التمييز فى وقود سيارات الركوب بين السيارات الصغيرة من ناحية والمتوسطة والكبيرة من ناحية أخري، ولن يكون ذلك ممكناً إلا بتخصيص حصة مناسبة متوسطة من الوقود المدعم لأصحاب السيارات الصغيرة والمتوسطة بحيث يتم التعامل معهم بالسعر التجارى بعد تجاوزهم هذه الحصة، أما أصحاب السيارات الفارهة ذات القدرة العالية فلا تُخصص حصة لهم أصلاً ويتم التعامل معهم من البداية للنهاية بالأسعار التجارية ، وقد تكون هذه الحلول هى الأصعب لكنها بالتأكيد الأسلم من المنظور السياسى . قد يكون من المطمئن نسبياً أن يقول وزير الكهرباء إن محدودى الدخل لن يشعروا بالزيادات القادمة والأمر نفسه ينطبق على ما نسمعه عن مناقشات مطولة تُجرى بشأن الزيادات القادمة فى أسعار الوقود فهى دليل على إدراك حساسية المسألة سياسياً لكن المهم أن يكون إحساس المسئولين كإحساس الناس بحيث لا تختلف معاييرهم لقياس القدرة على تحمل الأعباء عن معايير الناس حتى لا تتسبب فى قرارات غير مدروسة. لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد