استيقظت فى الليل الأخير أو فى الفجر على صوت لم أسمعه من قبل. كنت فى الثانية أو الثالثة من عمرى. والعجيب أن هذا الصوت ملأنى شجناً وجيشاناً. بالطبع لم أدرك ساعتها ما طبيعة ذلك الصوت؛ ولكن حين نبعتْ الذكرى فى وجدانى - بعدها بسنين - كعين ماءٍ حارةٍ متدفقة، تعرفتُ بسهولة على الصوت وما يحدثه فى النفس من أثر: إنها تقاسيم عود. وبقياس الزمن، يبدو أن هذا العود كان عود عم سيد مكاوى، فقد كان توأماً ملتصقاً بأبى منذ ولادتى (1956) ، وحتى منتصف الستينيات. ولكنّ العود الذى أكتب عنه هُنا لم يكن بالتأكيد عود عمى سيد؛ إنه العود المعلق الآن فى حجرة مكتب أبى فوق البيانو، متكفناً فى مترين من الدمور. مرت عليه السنوات (منذ رحيل أبى فى إبريل من العام السادس والثمانين من القرن العشرين)، وهو أخرس الوتر، محتشد بتاريخ وحكايات اليد التى كانت تعزفه كل ليلة، بعد أن تحرره من غطائه بحنان وعشق.. يد الملحن الكبير إبراهيم رجب الذى فارقنا - أيضاً - فى شهر إبريل.. لكنه إبريل هذا العام. رحل فى الثلاثين منه، وكان يوم جمعة، وقد هاتفنى قبلها، ربما بأسبوعين، وقال لى إنه يريد أن يرانى. لم أعرف ساعتها أنها رغبة إنسان يموت؛ وكنت كسير الروح، كما يحدث لى كثيراً فى إبريل، فلم أسرع للزيارة.. وليتنى أسرعت! كف النبض فى اليد التى كانت تبث حياتها ودفئها ونبضها فى العود المعلق فوق البيانو فى حجرة مكتب أبى، بعد أن تجرده من قماطه القماش وتحاوره وتداوره وتداعبه وتلاعبه حتى ينطق ويفصح وينجلى ويتجلَّى، فأطرب أنا وتحمرُّ عينا أبى بغرين النيل. يواصل العود للفجر، بينما عمى إبراهيم يراوح ما بين الغناء والضحك والسعال ورواية المُلح والنكات التى كان يحفظ منها كماً هائلاً ويلقيها بأستاذية لا تقل عن براعته وتمكنه فى التلحين. كان يأتى دائماً فى الليل، قبيل منتصفه أو فى العاشرة، ويمكث حتى الفجر أو قبيل الفجر، ويتبارى مع العود فى بث البهجة وإشاعة الجمال والمرح، بينما تواصل أكواب الشاى مواكبها الآتية من المطبخ المتجهة إلى حجرة المكتب، وكان غالبا موكباً أقوده بنفسى، ويتكون منى ومن صينية عليها كوبان من الشاى أو ثلاثة وسكرية من الصلب المطلىّ بالفضة. ويتناغم ويتجاوب رنين الملاعق مع رنين العود، ونحن نذيب السكر فى الشاى.. والبهجة فى القلب.. وتتوالى الأغانى، مئات من الأغانى، تولد على يديه وتحبو ثم تكبر وتسير بين الناس.. وعمى إبراهيم, أبو عبير وشمس ودنيا، مع صلاح جاهين كانت له بنات من نغم، فيهن الشجو من صلاح والمرح من إبراهيم: أغانيهما للأطفال فى أول عامين لمسلسل «بوجى وطمطم» للجميل الراحل محمود رحمى، وأغنية «أبريق الشاى»، وبعض استعراضات فوازير نيللى: عروستى (1979)، و«الخاطبة» (1980)، إضافة لفوازير لغز الملكة شهرزاد (1970)، وعشرات من أغانى المسرحيات والأفلام والأوبريتات التليفزيونية والإذاعية. كما لحّن إبراهيم رجب لكبار شعراء العامية: فؤاد حداد (ولا غِنى ولا صيت، وإوعا ما توعاش) والأبنودى (أنا عايز صبية وبيوت السويس) وسيد حجاب (ياللا بينا تعالوا)، وله يرجع لحن أشهر أغنية للكورال بعد عصر سيد درويش وهى «تعيشى يا بلدى». كان يأتى فى الليل ويمضى فى الفجر، وقد تحطم قلبى حين لم يعد يأتى فى الليل ويمضى عند الفجر، وحين تكّفن العود فى قماطه، بعد أن كان إبراهيم ينحنى عليه كل ليل انحناء الأب على وليده. إنه الآن يظل صامتاً, ملتقماً الدمور فى حلقه الشجىّ العامر بالنغم. ومرت السنوات ونحن لا نلتقى، عمى إبراهيم وأنا، حتى شارف التسعين وطالب بحقَّه فى الالتحاق بأحبائه الذين يسافرون عادة فى إبريل، فغادر فجأة.. تاركاً فى قلبى غُصةً.. لكنّ غناء العود وصوت ضحكاته الطالع من وجدانى ما لبث أن شفانى. لمزيد من مقالات بهاء جاهين