لدينا متحف إسلامى وآخر فرعونى نسميه المصرى وثالث قبطي، ولكن ليس لدينا متحف وطنى مصرى يقدم الوطن بتاريخه ومكوناته جميعها. المتاحف الثلاثة تعكس حجم الثراء والتنوع الذى يتمتع به تاريخ هذا البلد. المتاحف الثلاثة -على بهائها الفائق- تعكس أيضا الانشقاق الحاصل فى الوعى الوطنى بين مصريين ينسبون أنفسهم لحضارة الإسلام، وآخرين ينتسبون إلى حضارة الفراعنة. تقسيم متاحفنا الكبرى إلى ثلاثة - إسلامى وقبطى وفرعونى - ينطوى على منطق ومعيار دينى فى التمييز بين الحقب التى تناوبت على التاريخ المصري، كما لو كان تاريخ المصريين قد تم اختزاله إلى تاريخ الديانات فى مصر. تسمية المتحف الفرعونى بالمصري، يوحى كما لو أن الحقبتين القبطية والإسلامية ليستا بمصريتين، وأن ما هو مصري، انتهى بنهاية الحضارة المصرية القديمة، أوكما لو أن المصريين كفوا عن أن يكونوا كذلك منذ ذلك الحين. الأسوار المقامة بين حقب التاريخ المصري، والمنعكسة فى متاحفنا، تحفر شقا عميقا فى الوعى الوطنى المصري. صراعات الهوية التى تنخر تحت أساسات البنيان الوطنى تتغذى على مفاهيم وتصرفات وتجليات كثيرة يتورط فيها الكثيرون بحسن نية، فيما يوظفها ويعمقها آخرون بقصد وتعمد. المصرى المعاصر، هو محصلة توالى وتفاعل الحقب الكثيرة التى مرت على مصر، بما فيها من غزوات وهجرات بشرية وتبديل اللغة والدين. هذا هو ما صنع مصر بما هى عليه، والتى لا مجال لاستبدالها. ليس باستطاعتنا إعادة صنع التاريخ ولكن يمكننا كتابته وتقديمه بطرق عدة، وبالتأكيد فإننا نستطيع أن نفعل ذلك بطريقة تعزز هويتننا الوطنية. العلم والنشيد والمتحف الوطني، كلها أدوات استعملتها الأمم لتعزيز الهوية الوطنية الجامعة. مصر ينقصها متحف يؤكد اسمه الوطنية المصرية، فيما تحمل محتوياته مفهوما تكامليا للتاريخ المصري. مقتنيات المتحف الوطني، وتتابع معروضاته وطريقة ترتيبها، والتعليقات القصيرة الملصقة على المعروضات، كل ذلك فى مجملة يمثل سردية واحدة تحكى قصة نشوء وتطور الأمة.. فى المتحف الوطنى تمييز بين الحقب التى تعاقبت على الوطن، بينما يتم تأكيد ما بين الحقب المختلفة من استمرارية تؤكد تواصل وتطور الهوية الوطنية. المتحف الوطنى هو مشروع فكرى ورسالة سياسية قبل أن يكون هيكلا خرسانيا يبنيه المقاولون، وينسق قاعاته الداخلية خبراء المعارض والفنون. لدينا فى منطقة الفسطاط مبنى رائع، يقبع على قمته هرم لامع يمكنك أن تراه عن بعد من مناطق عدة فى القاهرة. المبنى المقام على مساحة هائلة يحمل اسم المتحف القومى للحضارة المصرية. حاولت زيارة هذا المتحف الجمعة الماضى فوجدته مغلقا بعد أن كان قد تم افتتاحه رسميا قبل شهرين. الصور المنشورة عن مقتنيات المتحف لا تدل على أن جهدا فكريا أو مفهوما واضحا يقف وراءه. مصير هذا المتحف يدل على قصته، وإن اختلفت التفاصيل. اللافتات المعلقة على أسوار المتحف تدل على المقاول الذى بناه، وبيت الخبرة الذى صمم صالات العرض، لكن لا توجد أى إشارة إلى المثقفين، الذين أسهموا فى صياغة المفهوم وبلورة الفكرة. «المتحف القومى للحضارة المصرية» مشروع هندسى رائع، لكنه يظل بلا قيمة حضارية أو وطنية حقيقية بسبب غياب الفلسفة التى تحكم معروضاته وأنشطته. القليل المنشور عن المتحف القومى للحضارة المصرية يوحى بأن المقصود به هو أن يكون تلخيصا مجمعا للمتحف المصرى والإسلامى والقبطي، أو أنه سيكون متحفا كشكولا، يشبه الملخصات التى أدمنها طلاب المدارس عندنا. لا أعرف ما الذى يمكن أن يغرى الناس على زيارة المتحف الملخص إذا كان بإمكانهم زيارة المتاحف الأصل، اللهم إلا إذا كان المتحف قد تصميمه للسائحين المتعجلين الذين يريدون رؤية كل شيء فى زيارة واحدة قصيرة. متحف مصر الوطنى المنشود يحكى قصة الحياة على أرض مصر، كل مصر، ومصر فقط، وفى كل العصور. متحف مصر الوطنى يقدم المسار الذى أخذته الحياة فى بلدنا، حتى أصبحنا ما نحن عليه بكل ما لدينا من نجاحات وانكسارات، فهذا نحن، ونحن فخورون بذلك. متحف مصر الوطنى هو مزيج من متاحف التاريخ الطبيعي، والأنثروبولوجي، والثقافة، والفنون. فلسفة المتحف الوطنى هى فلسفة الانتساب لكل ما جرى على أرض الوطن عبر الحقب المختلفة بلا انتقاء ولا تحيز. المتحف الوطنى المقترح، ليس بديلا عن متاحفنا الثلاثة الإسلامية والقبطية والمصرية.المتاحف الثلاثة هى أثمن ما نملك، وكل منها يعد فى مجاله علامة مسجلة لا يفرط فيها إلا جاهل أو مغرض. متاحفنا الثلاثة تحكى ثلاث قصص للإسهام الحضارى المصري، والمطلوب هو متحف إضافى يحكى قصة موحدة لتاريخ مصر والمصريين. تأسست المتاحف الثلاثة فى العقد الأول من القرن العشرين قبل أن يكتمل تبلور هوية مصر القومية فى ثورة 1919. متاحفنا الكبيرة التى تأسست احتفاء بآثار رائعة دون غرض أو دافع سياسى -غالبا، وهذا هو ما يكسبها قيمتها الفنية والحضارية.مصر فى هذا تشبه الأمم الراسخة التى أتى فيها الوجود القومى سابقا على تبلور الوعى القومى بفترة طويلة، وهى نفس البلاد التى لا تظهر لديها الحاجة لاستخدام المتحف الوطنى أداة لترسيخ هوية قومية ولدت وتطورت تلقائيا عبر قرون طويلة. غير أن تاريخ مصر وموقعها فى قلب الشرق الأوسط وعلى ساحل المتوسط أجج فيها صراعات الهوية، حتى أصبح صراع الهويات أهم خطوط الانقسام السياسى فى المجتمع المصري، متقدما فى ذلك على الصراع بين الطبقات والايديولوجيات.الهوية القومية فى مصر تتعرض لضغوط قوية من تيارات محلية وإقليمية وعولمية عديدة، وتطوير وتنويع أدوات تعزيز الهوية الوطنية بات ضروريا. الغرض السياسى الواضح وراء متحف مصر الوطنى يمكن له أن يتسبب فى إفساد المشروع كله، إذا تحول المتحف إلى درس ممل فى التربية الوطنية. الرسالة السياسية للمتحف يجب تقديمها فى أرقى إطار فني، وبأقصى درجات الدقة فى عرض وترتيب وقائع التاريخ، وهذا ما يدعونى للتأكيد على ما سبق قوله من أن متحف مصر الوطنى هو فكرة فيها من الإبداع الثقافى والفكرى أضعاف ما فيها من أعمال الهندسة والمقاولات. لمزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد