عرض مسرحى راق وجميل ذلك الذى يقدمه الآن المسرح الحديث على مسرح السلام بشارع قصر العينى برئاسة الفنان أشرف طلبة. العرض بعنوان «قواعد العشق 40» وهو مأخوذ عن رواية الكاتبة التركية الشهيرة أليف شفق التى تحمل نفس الاسم والتى ذاع سيطها عام 2014، إلا أن العرض يقدم فرجة مسرحية عميقة لا تلتزم التزاما حرفيا بالأصل الروائي، وانما تنطلق منه لتبحر بحرية فى عوالم الصوفية الإسلامية بنزعتها الفنية الراقية. ولا يمكن فصل العرض عن اللحظة الزمنية التى يقدم فيها، فهو يأتى فى وقت تحاول الوهابية المتزمتة فرض رؤيتها الاستبعادية على الدين الإسلامى السمح، فتشوه كل مواطن الجمال والروحانية التى لازمت الإسلام منذ نشأته، ذلك الدين الذى استقبل نبيه فى المدينةالمنورة ليس بطبول الحرب وصيحات الانتصار، وانما بالموسيقى والغناء والمجازات الشعرية التى صورت قدومه بطلعة البدر فى السماء. من أجل ذلك جاء العرض مليئا بالموسيقى والرقص والغناء، من الإنشاد الصوفى الذى يتغنى بعشق الذات الإلهية، الى رقصة الدراويش التى يتوحد فيها الراقص فى دورانه مع حركة الدوران الأبدية للأفلاك فى السماء فيصير هو والكون واحدا. يبرز فى هذا العرض الفنان الجميل بهاء ثروت الذى وظف كل قدراته الفنية المتراكمة فى تجسيد شخصية شمس الدين التبريزي، ذلك الدرويش الجوال، أو القلندرى كما كان هؤلاء الدراويش يسمون، والذى كان لقاؤه التاريخى بالشاعر الصوفى الكبير جلال الدين الرومى نقطة فارقة فى حياة الرومى وفى شعره على حد سواء، فقد اتخذ العرض من هذه المقابلة بين القطبين الصوفيين نقطة ارتكازه الرئيسية فحاول تصوير جذوة الوهج الذى ولده لقاء الرجلين والذى دخلا بعده فى خلوة أربعينية تعايشا خلالها مع الملكوت الفكرى الذى شغلهما، وتباحثا فى أمور الله والدين والكون، بغية الإجابة على الأسئلة التى لا جواب لها. لكن لأن شمس كان قلندريا فهو لم يكن يمكث فى أى مكان طويلا، لذا ما لبث أن ترك مدينة قنية التى التقى فيها بالرومى وذهب الى حيث لا يعرف أحدا، ويقال إنه قتل، فقد سمع ذات ليلة طرقا على بابه وخرج لملاقاة الطارق فلم يره أحد بعد ذلك، وهكذا ظل الرومى بقية حياته يبحث عن شمس، ويتتبع كل ما يصله من معلومات حول أماكن يقال إنه شوهد فيها، كما ظلت تبحث عنه أيضا زوجته التى أحبته والتى زوجها له الرومى أثناء إقامته عنده، لكنه لم يمسسها قط، كما ظل يبحث عنه اتباع الرومى الذين حقدوا عليه وأرادوا الانتقام منه بسبب استحواذه الكامل على مولاهم الذى لم يعد يلقاهم ولا يدرس لهم، منذ دخل شمس حياته، وقد كنت أفضل أن يسمى العرض «البحث عن شمس» بدلا من اسم الرواية التى انطلق منها العرض، فالبحث هنا هو الموضوع الحقيقى للمسرحية، وشمس هو التجسيد الحى لما تبحث عنه شخصيات المسرحية، كل منها بطريقتها. لقد تمكن بهاء ثروت من تصوير تلك الشخصية الفذة والمحيرة والتى كان تأثيرها هائلا على كل من عرفها. كان شمس فى الستين من عمره حين التقى بالرومي، لكن يروى عنه أنه كان طويلا ممشوق القوام لا يدانيه أحد فى حضوره الطاغى ولا يطاوله أحد فى قوة حجته وبساطة طرحه والذى كان يرتكز فى الأساس على تلك العاطفة الجوهرية فى الفكر الصوفى وهى الحب، حب الله، وحب البشر، وحب الجمال، وقد نجح بهاء فى تصوير كل ذلك بأدائه المركب الذى بدا كالسهل الممتنع وهو يتنقل عبر مستويات مختلفة للشخصية التى تقمسها، والتى تقوم فى نفس الوقت على قوة العقل وصواب البصيرة، وعلى تأجج العاطفة وانسانية التواصل. لماذا لا نرى هذا الفنان المقتدر فى المزيد من الأعمال الفنية التى تحتاج موهبته التى صقلتها الدراسة الأكاديمية؟ كما برز أيضا عزت زين فى دور الرومى فأداه بالرصانة المتوقعة دون أن يغفل لحظات الضعف الإنساني، خاصة وهو يمنح عباءته وعمامته لمن جاء يخبره بمكان شمس، رغم علمه بأن محدثه كاذب، لكن ذكر اسم شمس أمامه كان كفيلا بأن يمنح محدثه كل ما يطلب، وبرز أيضا هانى عبد الحى فى دور ابن الرومي، علاء الدين، بأدائه المسرحى الأصيل، وقسمات وجهه القوية المحددة والتى عرف كيف يوظفها فى تجسيد مظاهر الغضب، أما مفاجأة العرض فهو سمير عزمى طالب الفنون المسرحية صاحب الصوت النقشبندى الساطع الذى ظل الجمهور يقاطعه بالتصفيق طوال العرض. وفى الأدوار النسائية برزت أميرة أبو زيد بصوتها الغنائى المميز، وكذلك فوزية التى لم يذكر لها المسرح اسم عائلة(!)، وهدى عبد العزيز بخفة ظلها، ودينا أحمد التى نجحت فى تصوير صراع الشخصية التى قدمتها ما بين مهنة البغاء التى فرضت عليها وتطلعها الى السمو الروحي، واقترابها من فقدان هويتها ما بين هذا وذاك، وإن كان عليها أن تهتم قليلا بمخارج حروفها أثناء لحظات الانفعال... ماذا حدث لدروس الإلقاء التى أفنى الممثل القدير عبد الوارث عسر حياته يلقيها على أجيال متتالية من طلبة معهد الفنون المسرحية؟!وأنتهز هذه الفرصة لأتوقف عند ظاهرة صدمتنى حقا، هى تلك الميكروفونات التى استخدمها الممثلون. إن الصوت المسرحى هو أحد أهم أدوات ممثل المسرح، ومثل هذا الشيء الأسود القبيح الذى تدلى من أعناق الممثلين طوال العرض قد تجده فى بعض المسرحيات الاستعراضية بالمسرح التجاري، لكنك لا تجده أبدا فى عروض فرقة شكسبير الملكية فى لندن، أو الكوميدى فرانسيز فى باريس، ولا كان مسرحنا الجاد يلجأ له فى السابق، فلا استخدم «النك مايك» جورج أبيض ولا فاطمة رشدى ولا عبدالله غيث ولا سميحة أيوب ولا عزت العلايلى ولا سهير المرشدي، فالمسرح الجاد لا يعرف الميكروفونات، والممثل المسرحى الحق يرفض استخدامها لأنه ليس ممثل مسلسلات تليفزيونية، والمسرحيون المدربون يعرفون تعبير stage whisper أى الهمسة المسرحية التى تصل بهمس الممثل الى آخر متفرج فى الصالة. ولا يمكن الحديث عن هذا العرض المتميز بدون الإشادة بالرؤية الإخراجية للفنان الشاب عادل حسان الذى شارك فى كتابة العرض ومزج فى شاعرية نادرة عناصر العرض الفكرية والفنية بشكل جمالى مبهر، فجاء عرضه على مستوى فنى افتقدناه منذ سنين. وتحية واجبة أيضا لرئيس البيت الفنى للمسرح الفنان إسماعيل مختار الذى انتعشت مسارح الدولة على يديه فعاد جمهور المسرح الذى قيل إنه اندثر لكنى وجدته يملأ صالة هذا العرض الراقى المكتوب باللغة الفصحى والذى لا يخاطب الغرائز وانما الفكر والوجدان. لمزيد من مقالات محمد سلماوى