وزير الخارجية يلتقي الجالية المصرية في أوغندا    "القومي للمرأة" يواصل ورشة عمل "نظام عمل الوحدة المجمعة لحماية المرأة من العنف"    القوات المسلحة تنفي بشكل قاطع مزاعم مساعدة إسرائيل في عملياتها العسكرية    وزير الخارجية يعقد لقاءً مع رجال أعمال أوغنديين    بدء تركيب قضبان السكة الحديد لمسار الخط الأول للقطار الكهربي السريع    محافظ القاهرة: توفير 100 أتوبيس منها 15 لذوي الهمم بالمنتدى الحضري العالمي    الجيش الأردني يعلن سقوط مسيرة مجهولة المصدر في محافظة جرش    الانتخابات الأمريكية.. فانس: التصويت لترامب يمنع نشوب حرب عالمية ثالثة    أحمد عبد القادر يسجل في فوز قطر على الخور بالدوري القطري (فيديو)    بعد اتهامه بضرب شقيق محمد رجب.. مصادر تكشف مصير ابن مجدي عبد الغني    بعد انفصاله عن فريق "أيامنا الحلوة".. كريم حراجي يطرح كليب أغنية "رغم حزنك"    خبير آثار يكشف حقيقة إخلاء دير سانت كاترين وهدمه وطرد الرهبان    بالفيديو.. ما هى الفريضة الغائبة عن المسلمين؟.. خالد الجندى يجيب    هل وجود النمل فى البيت دليل حسد؟.. أمين الفتوى يجيب    بلغة الإشارة..الجامع الأزهر يعقد ملتقاه الأسبوعي بعنوان"ما كان لله بقي"    نصائح مهمة من الصحة قبل تطبيق التوقيت الشتوي    مصر تحصد ذهبية وفضية اليوم في البطولة الدولية للناشئين لتنس الطاولة    بلينكن: يجب التركيز على إنهاء الحرب فى قطاع غزة    إجراء 3120 حالة منظار بوحدة المناظير بمستشفيات جامعة بني سويف    إسرائيل تحقق فى خرق أمنى كبير تسبب فى تسريب معلومات مهمة    خبير استراتيجي: شروط إسرائيل لوقف إطلاق النار قاسية    الاتحاد السكندري يكشف عن تصميم حافلته الجديدة (صور)    غدا.. افتتاح 4 مساجد جديدة في كفر الشيخ    هل يحق للأجنبي تسجيل وحدة سكنية باسمه في الشهر العقاري؟    الشعب الجمهوري ينظم صالونًا بعنوان "دعم صحة المرأة المصرية"    إياك وشرب القهوة في هذا الوقت.. خطر يهدد نشاطك طوال اليوم    «التعليم» تحدد موانع التقدم لأعمال امتحانات الدبلومات الفنية 2025    حبس قاتل تاجر الأسمدة وسرقته فى الشرقية    "مخاطر الزواج المبكر" ندوة في البحيرة.. صور    وزير الأوقاف يعلن عن خطة دعوية توعوية واسعة للواعظات لتعزيز التماسك الأسرى    موسيالا يحدد موعد حسم مستقبله    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 694 ألفا و950 جنديا منذ بداية الحرب    مفيد عاشور يعلن عن مسابقة مسرح الشارع بمهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي    إقبال مواطنى البحيرة على تلقى لقاح الأنفلونزا الموسمية داخل المراكز الطبية    وكيل الصحة بشمال سيناء يتابع مبادرة 1000 يوم الذهبية    المشدد 15 سنة للمتهم بق.تل شخص بالخصوص في القليوبية    إنهاء خصومة ثأرية بين عائلتين بقنا (صور)    الطبيبة الشرعية تؤكد: لا دليل على تناقض مقتل "نورا" بواسطة رابطة عنق في قضية "سفاح التجمع"    مصرع 5 أشخاص وإصابة 5 آخرين جراء العاصفة الاستوائية "ترامي" في فيتنام    البورصة المصرية تستضيف مسئولي الشركات الأعضاء لمناقشة أحدث المستجدات    الزمالك في ورطة.. باتشكيو يحسم موقف القيد في القلعة البيضاء    المترو يعمل ساعة إضافية اليوم بسبب تغيير التوقيت    محافظ الفيوم: تطور مذهل في نمو يرقات الجمبري ببحيرة قارون    وكيل "تعليم مطروح" تؤكد أهمية مركز التطوير التكنولوجي لخدمة العملية التعليمية    بليغ أبوعايد: رمضان أعاد الانضباط إلى غرفة ملابس الأهلي    «الداخلية»: تحرير 572 مخالفة عدم ارتداء خوذة وسحب 1491 رخصة بسبب الملصق الإلكتروني    محمد فاروق: قدمت استقالتى وتراجعت عنها بعد جلسة مسئولى الجبلاية    وزيرا الإسكان والعمل يستعرضان سبل تعزيز التعاون المشترك    أمين الفتوى عمرو الورداني: 5 أنواع للآباء يتسببون فى دمار الأسرة    المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان يبدأ جولة إقليمية    مواعيد أهم مباريات اليوم الخميس في كأس ملك إسبانيا والقنوات الناقلة    لهذا السبب.. محمد منير يتصدر تريند "جوجل"    الجمعة.. مواقيت الصلاة الجديدة بالمحافظات مع بداية التوقيت الشتوي 2024 في مصر    برج القوس حظك اليوم الخميس 31 أكتوبر.. تخدمك حكمتك المالية    آسر ياسين وأسماء جلال أبرز الحضور بحفل منصة شاهد    فلسطين.. شهيد برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في مخيم طولكرم    جوتيريش: هناك رغبة لدى الدول لاتخاذ إجراءات بشأن تلوث البلاستيك    نسرين طافش تتألق على ريد كاربت مهرجان الجونة السينمائي (صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإخوان والفن
نشر في الأهرام اليومي يوم 07 - 07 - 2012

كان يدرك تماما معني اندماج الفنان وتقمصه للشخصية التي يؤديها علي خشبة المسرح‏,‏ لكن ما قد يسرق عين المشاهد ليأخذها بعيدا عن الأحداث هو ما قد رآه‏,‏ وما قد لمسه‏. وما كتب عنه حسن البنا بخط يده في إحدي مقالاته, وذلك عندما لمح ما أحرجه من الفنانة القديرة عزيزة أمير أثناء تأديتها لدور بثينة في مسرحية جميل وبثينة التي قام بكتابتها شقيقه عبدالرحمن البنا العضو البارز في جماعة الإخوان المسلمين, وأخرجتها فرقة الإخوان المسرحية علي نفقتها عام1934 ضمن ثماني مسرحيات قام ببطولتها باقة من أبرز النجوم علي رأسهم جورج أبيض, وعباس فارس, وحسن البارودي, ومحمود المليجي, وفاطمة رشدي وعزيزة أمير, وانضم إليهم في الأربعينات كل من عبدالمنعم مدبولي, وإبراهيم الشامي, وسراج منير, ومحمد السبع, وعبدالبديع العربي, وشفيق نور الدين, وسعد أردش, والأخوان حمدي غيث وعبدالله غيث, وإبراهيم سعفان.. وغيرهم لمح حسن البنا البرامادونا عزيزة أمير أثناء اندماجها في أداء مشهد المطاردة الرومانسية التي يلاحقها فيها جورج أبيض عندما تجري علي خشبة المسرح فتتطاير أكمامها الواسعة ليكشف الاتساع عمق الذراعين.. هنا دفعه الحرج إلي لفت نظر النجمة فلم تستنكف من ربط الأكمام بالأستيك لتضييقهما نزولا علي رغبته لترمح باحتشام أثناء مطاردة أشعار الهيام التي يلاحقها بها جميل مثل:
يموت الهوي مني إذا ما لقيتها
ويحيي إذا فارقتها فيعود
لئن كان في حب الحبيب حبيبه
حدود لقد حلت علي حدود
إذا قلت: رد يا بثينة بعض عقلي أعش به
مع الناس قالت: ذاك منك بعيد
ورغم أن جميل وبثينة مجرد مسرحية عاطفية, فإن الدافع الأساسي لاختيارها كما قال حسن البنا كان الغيرة علي الإسلام والعروبة, فقد وجد أن هناك فراغا كبيرا لم يسده الفنان العربي في هذا المجال, ومن هنا تساءل في مقدمة المسرحية التي تم نشرها مع مسرحيات الإخوان الأخري ضمن مطبوعات مكتبة مصر: لماذا نستجدي من الغرب قصصه وحوادثه فنذكر( روميو وجولييت) ونحتفي ب(غادة الكاميليا) ولا نعود إلي شرقنا فنقتبس النور من إشراق سمائه, ونغرف الحب من طهارة أبنائه, فالأعمال العاطفية ليست مرفوضة لذاتها, ولكن الأمر يتوقف علي المدخل الذي يلج منه المؤلف للموضوع, فهو يعالج العاطفة الجارفة بضبطها, فرغم شدة الحب والتعلق بين الحبيبين, ورغم ظلم البيئة والمجتمع, ورغم عدالة قضيتهما, ورغم سنوح الفرصة للارتشاف من اللذة, فإنهما لا ينزلقان, والعامل الأساسي في ذلك عروبتهما وإسلامهما.
حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين صاحب المكتبة التي حوت عدة آلاف من الكتب, الذي أمضي19 عاما مدرسا بالمدارس الابتدائية في الإسماعيلية ثم القاهرة من بعد تخرجه من دار العلوم عام1927 ليقدم استقالته في عام1946 متفرغا للعمل الصحفي في جريدة الإخوان المسلمين اليومية التي يتركها ليصدر مجلته الخاصة الشهاب ابتداء من عام..1947 لم يقف من الفن مجرد موقف المنظر, أو مبدي الرأي الفقهي فقط, أو الداعي نظريا إلي تبني الفن دون ممارسته, فقد قام البنا بالتطبيق إلي جانب التنظير, فأفسح للفن مساحة محمودة في نشاط جماعة الإخوان وذلك بتكوين عدة فرق مسرحية كان أشهرها فرقة القاهرة, وكان العاملون في تلك الفرق لا يستبعدون حضوره في أي لحظة لحرصه علي حضور البروفات بنفسه للاطمئنان علي جودة الأداء.. وقد قام البنا بتدريب طلبة الثانوي علي الأداء المسرحي وتعميم الفكرة علي معظم شعب الإخوان علي مستوي جميع المحافظات لتكون في الريف والمناطق النائية بمثابة البديل عن دور السينما والراديو, وذلك لإيمانه بأن الفن أسرع طريق عن أي وسيلة أخري لغرس القيم الأخلاقية وتأصيلها في النفوس, وأن الفنون الجميلة ليست من الكماليات يمكن الاستغناء عنها بل هي أنشطة إنسانية واجتماعية لصيقة بحياة الناس ومتطلباتهم وطموحاتهم, ومن يرفض من المتشددين التمثيل بدعوي أنه بدعة مستحدثة, وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار, وبدعوي أنه لهو وتسلية مرفوضة وضياع للوقت فقد تناولت مجلة الإخوان الأسبوعية الرد علي مثل هذه الدعاوي, حيث بين كاتبها أن التمثيل وإن كان بدعة, لكن ليس كل بدعة مكروهة, فهناك من البدع والمستحدثات ما لم يكن في عهد الرسول, ومع ذلك دعت إليه الضرورة, واقتضاه أسلوب العصر, كما أنه ليس كل لهو باطلا يحرم الاشتغال به, ولا يعد تناول التاريخ الإسلامي فنيا وتصوير بطولات المجاهدين والمواقف النبيلة التي تهز المشاعر لهوا محرما, وأما موضوع التسلية فما المانع أن يقضي المرء ساعة في تسلية بريئة إن لم ينتج عنها خيرا فلا ينتج عنها شرا, وقد ورد أن القلوب في حاجة إلي الترويح, وأن القلوب إذا ملت عميت. وإذا ما كانت الرياضة تغذي الجسم, والعبادة تغذي الروح, والعلم يغذي العقل, فإن الفن الراقي الذي يسمو بالإنسان يغذي الوجدان..
ومن متابعتي لما كتبه كل من الدكتور حمادة حسني الأستاذ المساعد للتاريخ الحديث بجامعة قناة السويس والأستاذ عصام تليمة وجدت أنه مما ساعد البنا في نجاح تجربته الفنية التي لم تستمر للأسف أكثر من عشر سنوات أنه ارتكز بشكل أساسي علي المتخصصين في جميع مجالات الفن بداية من حسن اختيار النصوص والنجوم وطرق الدعاية.. وكان من أكبر العوامل المساعدة لازدهار التجربة الحضارية تلك الزمن الجميل الذي ولدت في مناخه الصحي والذي كان يسمح بصعود الفن الملتزم, ولا يري فيه حرجا أو خروجا عن تعاليم الدين.. وقد مضي البنا قدما في هذا الطريق المفروش بالنور حتي أنه كان حريصا علي أن تكون هناك سهرة لمشاهدة الأوبرا المصرية في برنامج كل ضيف زائر لمصر وغالبا ما كان يصحبه إليها, وفي رواية لسكرتيره محمود أبورية أنهم ذهبوا مرة كعادتهم باصطحاب أحد الضيوف للأوبرا ولما لم يجدوا عددا كافيا من التذاكر طلب منهم الأستاذ البنا الدخول مع الضيف لينتظرهم مضحيا بالمشاهدة في مكان آخر حتي موعد نهاية العرض.. زمن الثلاثينيات السلمي الجميل الذي كان فيه شيخ الأزهر محمد مصطفي المراغي من هواة حضور حفلات الأوبرا, وأبدا لم ينتقد ذلك الحضور أحد من علماء عصره, وجاءت الثمانينيات بصهدها القادم من بلاد النفط لتكتب مجلة التوحيد التي تصدر عن جماعة أنصار السنة بعدما نبشت في تاريخ الرجل لتمطره بوابل من الهجوم بعنوان عمائم في الأوبرا مما يضطر نجله الدكتور إسماعيل المراغي لكتابة توضيح في الفارق بين أوبرا الماضي وأوبرا الحاضر!!.. هذا وكان من بين الفنانين من يحمل لقب الشيخ ويباهي به ولا يجد حرجا في أن يرتدي العمامة ويعمل بين أهل الطبقة الفنية التي لا ترفضه بل تستوعبه فردا مؤثرا بينها, ومن هؤلاء الشيخ سلامة حجازي, والشيخ زكريا أحمد, والشيخ إمام عيسي, والشيخ سيد مكاوي.. ويكتب خالد محمد خالد في مذكراته مشيدا بنزهة مشي فيها مع الشيخ محمد الغزالي معممين, فإذا بصوت عبدالوهاب يشدو من إحدي النوافذ بأغنية الجندول فتجاوب الغزالي طربا واضعا يدا معبرة فوق موضع القلب... ولم يتراجع المد الإخواني المسرحي في المحافظات اللهم إلا بعد قيام فرقة شعبة طنطا المسرحية بتمثيل مسرحية الأضحية عندما ظهرت شخصية النبي إسماعيل عليه السلام وإلي جانبها كبش حقيقي..
ولم يقتصر مسرح الإخوان علي تقديم جميع أنواع المسرحيات حتي الكوميدي منها فقط, بل قام بتقديم عروض ناجحة في مجال الأوبريت الغنائي أيضا, وكان عبدالباسط عبدالرحمن شقيق حسن البنا وله من الأشقاء أربعة مؤلفا للعديد من الأوبريتات التي تتناول موضوعات تاريخية واجتماعية وفنية ومنها: إبراهيم باشا منتصرا والجندي المجهول ومجد العروبة وإكليل الغار والأنشودة الفائزة ونشيد المبرة, وشاهدت خشبة مسرح الإخوان أوبريتات باللهجة العامية مثل معجزة الزمان والزمان يتكلم, وقد كان الزجل من الفنون الأدبية التي ظهرت مبكرا لدي الإخوان, وقد نشرت مجلتهم عدة إعلانات عن دواوين زجلية في مايو1936 لزجال الإسماعيلية أبوهندية التي قال في إحداها بعنوان لازم تخالف هواك:
جري إيه يا سيدنا الأفندي.. ما تفوق لدينك شوية
دا العمر منك معدي.. والله صعبان علي
حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان الذي ولد في مدينة المحمودية عام1906 لأسرة يعمل فيها والده مأذونا وساعاتي.. تبلورت في رأسه فكرة الإخوان وهو طالب بدار العلوم فكتب موضوعا إنشائيا كان عنوانه ما هي آمالك في الحياة بعد التخرج فكتب عن أمله العام: أريد أن أكون مرشدا في تعليم الأبناء والآباء أهداف دينهم تارة بالخطابة والمحاورة, وأخري بالتأليف والكتابة, وثالثة بالتجول والسياحة, ولقد أنجب البنا ولدين أحمد ومحمد, وست بنات هن وفاء وسناء ورجاء وصفاء وهالة واستشهاد والأخيرة ولدت من بعد رحيله.. حسن البنا الذي قام بتصحيح وتنقيح ديوان صريع الغواني للشاعر مسلم بن الوليد الأموي وهو لم يزل مدرسا بالمدارس الأميرية, والذي قام بطباعته محمد أحمد رمضان المدني صاحب مكتبة المعاهد العلمية في الصنادقية بالقاهرة, وذلك طبقا لما نشرته الحياة اللندنية في عددها الصادر في9 يونيه الماضي.. البنا الذي كتب موجها كلامه إلي الإخوان: إن الناس يعيشون بغير قلوب, وقد ربطتم قلوبكم وجهادكم بالله العلي القدير الذي يقول( فاذكروني أذكركم) فادرسوا وتفقهوا في مبادئكم العالية, وتمعنوا في كتاب الله جيدا, إن الإخوان المسلمين لا يحاربون المسرح ولا المذياع, لأنهم ليسوا من الجمود بحيث يقفون هذا الموقف, ولذلك فهم قد أعدوا للمسرح قصصا كريمة وأدبا رائعا ومثلا وتوجيها صادقا..
وكان للبنا نهج وتقليد في جريدة الإخوان المسلمون اليومية, لم يظهر في أي صحيفة إسلامية أخري في وقته أو بعدها, فقد كان يخصص في إحدي صفحات الجريدة برامج الإذاعة المصرية, بداية بالقرآن الكريم, ومرورا بأغاني عبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهما, وكان يضع تحت عنوان الباب الإذاعي قوله تعالي: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا.. وكان فن الكاريكاتير من الفنون التي ظهرت بتوسع في مجلات الإخوان في الأربعينيات متناولا بالأسلوب الساخر أمور الحكم والانتخابات, وكان من الأسماء البارزة في عالم الكاريكاتير التي ساهمت في مجلات الإخوان بمبادرات شخصية بلا مقابل كل من طوغان, وصاروخان, وزهدي ورخا.. وإلي جانب الكاريكاتير حفلت الصفحات بالرسوم واللوحات, وأعلن البنا عن إنشاء قسم وصفحة للأخوات المسلمات تحت عنوان: نداء من السيدة لبيبة هانم مسئولة القسم تدعو أخواتها المسلمات للتعاون معها في المجال الصحفي, وقد أثني البنا علي ندائها بتعقيب قدمها فيه كمثال للمسلمة الصالحة بعد أن وضع صورتها الشخصية علي رأس الصفحة وليس وردة ليتوالي بعدها نشر صورته وصور الكتاب وعناوينهم من باب التعارف.. وتأتي بعدها مجلة الشهاب آخر مجلات البنا إصدارا لتسير علي نفس المنوال فتفرد صفحتين في نهايتها لنشر صور العلماء والمفكرين والدعاة.
ولعل أكثر ما ساعد البنا في تجربته الفنية أنه تبني فقه التيسير في قضايا الفن, وهو في ذلك لا يخالف الشريعة, بل هو ملتزم بروحها ونصها ومقاصدها, وهو ما أمر به الرسول أصحابه والمسلمين جميعا فقال: يسروا ولا تعسروا, وبشروا ولا تنفروا, وهو منهجه صلي الله عليه وسلم الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. ولو أن البنا وقف عند الجدل الطويل ما بين التشدد والتيسير الذي لا يقتنع فيه فريق برأي الفريق الآخر, لما تحرك للعمل الذي يأتي بالثمار.. ولأنه كان راعيا لفن التمثيل والمسرح في الثلاثينيات فقد امتدت عري تلك العلاقة للأربعينيات عندما جمعه لقاء المصادفة مع النجم أنور وجدي ليكتب عنه الدكتور محمود عساف بالتفصيل في مؤلفه روح وريحان يقول: في يوم من أيام صيف1945, وكان الجو صحوا ونسمة خفيفة تداعب الشجر في ميدان الحلمية الجديدة, وكنت وقتها عضوا منتدبا لشركة الإعلانات العربية, فذهبت كعادتي كل يوم لأتلقي تعليمات الأستاذ فوجدته غير مشغول بضيوف, فقال لي: قم بنا نذهب إلي البنك العربي لنفتح حسابا للإخوان هناك ولم يكن للإخوان حساب بأي بنك حتي ذلك الوقت.. ركبنا الترام من شارع محمد علي أمام مسجد قيسون متوجهين إلي العتبة, ومن هناك سرنا علي الأقدام إلي ميدان الأوبرا إلي شارع قصر النيل حيث البنك العربي.. توجهنا إلي مكتب رئيسه عبدالمجيد شومان وكان يتبع سياسة الباب المفتوح, وألقينا السلام وجلسنا علي أريكة مواجهة للمكتب, وكان هناك رجل جالس علي مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحونا يحادث الرئيس, وأثناء انتظارنا الصامت فاجأنا شومان بك بقوله: أهلا وسهلا بصوت عال مما جعل الجالس إلي مكتبه ينظر إلينا, وإذا به ينتفض واقفا هاتفا: حسن بك.. أهلا وسهلا يا حسن بك ويتقدم مصافحا مقدما نفسه: أنا أنور وجدي.. المشخصاتي.. يعني الممثل.. طبعا أنتم تنظرون إلينا ككفرة نرتكب المعاصي كل يوم في حين أني والله العظيم أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعا.. وكانت المفاجأة لي أننا لم نكن ننادي فضيلة الأستاذ أبدا بلقب بك.. ووجدته يقول للنجم الكبير: يا أخ أنور أنتم لستم كفرة ولا عصاة بحكم عملكم, فالتمثيل ليس حراما في حد ذاته, ولكنه حرام إذا كان موضوعه حراما, وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمي للإسلام إذا عملتم علي إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعو إلي مكارم الأخلاق, وأنني أرحب بك وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به في نشر الفضيلة.. وعندما سمع أنور وجدي ذلك الرد الجميل من البنا بكي وقبل رأسه, ورأينا بعدها لأنور وجدي فيلم ليلي بنت الفقراء.. وكان حسن البنا وراء إسلام المطربة ليلي مراد.. ولم تقتصر هذه الرؤية علي حسن البنا فقط وإنما امتدت إلي سيد قطب أيضا الذي ارتبط بعلاقة صداقة مع الفنان حسين صدقي الذي ذهب إليه يطلعه علي نيته للاعتزال عن التمثيل فقال له: إنني أكتب عشرات المقالات, وأخطب عشرات الخطب, وأنت بفيلم واحد لك تستطيع أن تقضي علي كل ما قلت وكتبت أو أن تدعمه, وأنصحك بالاستمرار بأفلام هادفة... واستمر حسين صدقي في العطاء لينهي حياته بعدة أفلام جيدة منها فيلم عنوانه الشيخ حسن الذي شاركته بطولته ليلي فوزي وكان يرتدي فيه الكاكولا والعمامة الأزهرية..
وعندما نتساءل عن سبب نجاح التجربة الفنية في عهد حسن البنا وإخفاقها من بعده بل واختفاء الفن عامة في جماعة الإخوان المسلمين إلي فترات ليست بالقصيرة بعد خروجهم من السجن في بداية السبعينيات, حيث لا تعدو محاولاتهم بعدها في هذا المجال سوي نشاطات هواة.. الأسباب تعود حتما إلي تأثر الخطاب الإخواني الواضح بالخطاب السلفي المتشدد, وساعد في ذلك أمران أحدهما سفر عدد من علمائهم ومفكريهم إلي دول الخليج وتأثرهم بالجو العلمي هناك مما نضح علي كتاباتهم وأفكارهم, إلي جانب انتعاش المنهج السلفي في تلك البلاد انتعاشا اقتصاديا مما جعل حركة توزيع الكتب المجانية التي تدعو لهذا المنهج تغزو بلادنا وتصنع أرضية لهذا الفكر المتشدد.. ومن أسباب عدم خروج الفن لساحة الإخوان ثانية انتشار مبدأ سد الذرائع بين أبناء الحركة الإسلامية الذي يستند علي القول بالباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح أي إغلاق باب المباح بدلا من فتحه وذلك خوفا من أن يفتح بذلك باب للهجوم علي الدعوة من خصومها, ولو كان ذلك علي حساب ترك المباح, أو المختلف فيه, وما أباحه عدد من العلماء!!! وأخيرا وليس آخرا حوادث العنف التي مارسها التنظيم الخاص داخل الإخوان غير المبررة وغير المسئولة التي حولت علاقة الود والمحبة والصداقة بالإخوان إلي علاقة عداء وحرب مما جعل كاتبا كبيرا مثل عباس محمود العقاد الذي كانت علاقته طيبة بحسن البنا ينقلب إلي خصم عنيد وشديد وذلك بعد مقتل النقراشي علي يد بعض أفراد التنظيم الخاص, فالنقراشي كان صديقا عزيزا للعقاد.. وكذلك قام بنفس الدور عدد من المثقفين بعد حادث المنشية ومن بعدها حادث المنصة والاعتداء علي نجيب محفوظ.. والسؤال فيما إذا كان الإخوان حقيقة قد انقلبوا علي تعاليم البنا وأداروا ظهورهم للجانب المضيء من حياته كما يؤكد أخلص تلاميذه من أمثال الشعراوي والغزالي والباقوري؟!
وتكشف مراحل العلاقة ما بين المفكر الإسلامي سيد قطب أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين الذي بدأ حياته ناقدا أدبيا وكان من أنجب تلاميذ العقاد وبين نجيب محفوظ عميد الرواية العربية وصاحب نوبل.. تكشف المراحل حقيقة ما كان وما جري في مسألة انحسار ممارسة الأدب والفن علي شاطئ الإخوان.. ففي البدء وسط مناخ فكري وثقافي وحضاري كانت تعيشه وتنعم به مصر في الأربعينيات من القرن الماضي تبني الناقد سيد قطب إبداع نجيب محفوظ ليقدمه لقراء العربية من خلال روايته كفاح طيبة قائلا عنها وقت صدورها عام1944: إن الرواية ملحمة وإن لم تكن شعرا ولا أسطورة, ولو كان لي من الأمر شيء لجعلتها في يد كل فتي وفتاة, ووزعتها علي كل بيت بالمجان, وأقمت لصاحبها الذي لا أعرفه حفل تكريم في كل مكان.. وبعدها بأقل من عام كتب قطب مقالا في مجلة الرسالة عن رواية محفوظ القاهرة الجديدة يشيد فيه ببنائها ويعتبرها فتحا جديدا في الرواية العربية.. و..تمضي مشاهد العلاقة بأحداثها علي مر السنين ليكتب نجيب مخاطبا سيد قطب صاحب كتاب التصوير الفني في القرآن: ألم نقرأ القرآن؟ بلي. وحفظنا في زمن سعيد مضي ما تيسر من سوره وآياته, وكان ومايزال له في قلوبنا عقيدة وفي وجداننا سحر, بيد أنه كان ذاك السحر الغامض المغلق, تحسه الحواس, ويهتز له الضمير, دون أن يدركه العقل أو يبلغه التذوق, كان كالنغمة المطربة التي لا يدري السامع لماذا ولا كيف أطربته, فجاء كتابك كالمرشد للقارئ والمستمع العربي من أبناء جيلنا, يدله علي مواطن الحسن ومطاوي الجمال, ويجلي له أسرار السحر ومفاتن الإبداع.. كان القرآن في القلب فصار ملء القلب والعين والأذن والعقل جميعا..... وتترك شخصية سيد قطب تأثيرها علي نجيب لدرجة أنه وضعها ضمن الشخصيات المحورية التي تدور حولها روايته المرايا مع إجراء بعض التعديلات, ولكن القارئ المدقق يستطيع أن يدرك أن شخصية عبدالوهاب إسماعيل فيها ملامح كثيرة من سيد قطب.
وتمضي سنين العلاقة ليكتب نجيب خاتمتها بعد اللقاء الأخير: سيد قطب هو أول ناقد أدبي التفت إلي أعمالي وكتب عنها في الأربعينيات, وتعرفت عليه في ذلك الوقت حيث كان يجيء بانتظام للجلوس معنا في كازينو أوبرا, وكانت العلاقة التي تربطنا أدبية أكثر منها إنسانية.. ميز سيد قطب في تلك المرحلة تحرره وذكاءه وموهبته الأدبية إذ كان من تلاميذ العقاد المخلصين, والعقاد علي ما أذكر هو الذي توسط له لدي النقراشي باشا لإرساله في بعثة دراسية للولايات المتحدة من عام1949 حتي1951, وكنت أعده لسنوات طويلة من رواد الاستنارة والفكر الجرئ المتحرر, وكان آخر لقاء جمعنا في بيته بحلوان حيث ذهبت لزيارته في عام1964 بصحبة آل السحار عقب خروجه من السجن بعفو صحي رغم معرفتي بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن أن تسببه لي من متاعب أمنية.
في تلك الزيارة تحدثنا في الأدب ومشاكله, ثم تطرق الحديث إلي الدين والمرأة والحياة, وكانت المرة الأولي التي ألمس فيها بعمق مدي التغيير الكبير الذي طرأ علي شخصية سيد قطب وأفكاره.. لقد رأيت أمامي إنسانا آخر.. حاد الفكر.. متطرف الرأي.. يري أن المجتمع عاد إلي الجاهلية الأولي وأنه مجتمع كافر لابد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقا من فكرة الحاكمية لا حكم إلا لله.. وسمعت منه آراءه دون الدخول معه في جدل أو نقاش.. فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلي تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب؟!!.
و.. من قبل وبعد..
مصر مرسي الذي نسي من قبيل القصد أو السهو الفن وأهله في خطابه الأول, ثم عاد في عود حميد ليرحب به في خطابه الثاني الذي فتح فيه مطمئنا صدره.. مصر التي بدعت الفنون قد زهدت المظاهرات والاعتصامات والملصقات والخيمات والمليونيات ووقفت تنتظر عودة ألحان حب جميل وبثينة وقيس وليلي.. و..أنساك يا سلام.. و...شوف الزهور واتعلم!!!
[email protected]
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.