إشادات برلمانية وحزبية واسعة بجهود الداخلية في إحباط مخطط "حسم"    دارين حداد: "المداح نجح بالتعب مش بالكرامات"    برلماني: مصر قطعت الطريق على "حسم" الإخوانية.. والأجهزة الأمنية تسطر نجاحًا جديدًا    لقطات حديثة لسد النهضة تكشف ما تخفيه إثيوبيا، البحيرة ممتلئة والأعمال مستمرة لتغطية التسرب    تهنئة من هيئة قضايا الدولة لرئيس مجلس الدولة بمهام منصبه    وزير الكهرباء: نعمل على توطين صناعة المهمات ولدينا فرص استثمارية    تراجع سعر الريال السعودي في ختام تعاملات اليوم 21 يوليو 2025    محافظ المنوفية يتفقد شركة صيانة الآليات بميت خلف لمتابعة منظومة العمل.. صور    وزير التعليم العالي: "كن مستعدا" مبادرة متكاملة لتأهيل مليون شاب لسوق العمل    صور| عشرات القتلى والجرحى إثر سقوط طائرة تدريب عسكرية في بنجلاديش    بابا الفاتيكان يحذر من التهجير القسري لسكان غزة: «نناشد وقف الحرب»    الأمم المتحدة: يجب وقف إطلاق النار في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية    يخضع لجراحة عاجلة| وعكة صحية مفاجئة لحسن شحاتة    لتعويض رحيل محمد إسماعيل ل الزمالك.. زد يطلب التعاقد مع مدافع المحلة    الأهلي بالزي الأساسي اليوم أمام الملعب التونسي    منتخب مصر للسلة يواجه إيران في بطولة بيروت الدولية الودية    ب قطار مخصوص.. كيف سهلت «السكة الحديد» عودة السودانيين إلى وطنهم؟    جريمة أسرية في القليوبية.. والمباحث تكشف اللغز    «افتح ستاير مسارحنا».. خالد جلال يفتتح الدورة ال18 للمهرجان القومي    وزير الثقافة يجتمع بمقرري لجان المجلس الأعلى ويؤكد: آلية جديدة تعيد للمجلس دوره كعقل مفكر للوزارة    10 انفصالات هزت الوسط الفني في 2025 (تقرير)    شعبة الأدوية تحذر من بوادر أزمة في سوق الدواء وتستغيث برئيس الوزراء    وزير الدولة للإنتاج الحربي يتفقد المركز الطبي التخصصي التابع للوزارة    طريقة عمل الشيش طاووق بتتبيلة لا تقاوم    آمال ماهر تتصدر تريند يوتيوب ب3 أغنيات بعد طرح ألبومها الجديد    "الدراسات العليا" بجامعة قناة السويس يفتح باب القبول والتسجيل لبرامجه "دبلوم - ماجستير - دكتوراه"    حزب الجبهة الوطنية يعقد مؤتمرًا حاشدًا بكفر شكر لدعم مرشحه لانتخابات الشيوخ    حدث في بنجلاديش .. سقوط 16 قتيلا جراء تحطم طائرة عسكرية سقطت بحرم مدرسة وكلية مايلستون    فريق طبي بمستشفى كفر الشيخ الجامعي ينجح في إنقاذ مريضة تعاني من ورم    وزير الخارجية يؤكد حرص مصر على نقل خبراتها المتراكمة في مكافحة الإرهاب لدعم القدرات النيجيرية    27 شهيدا جراء غارات الاحتلال على قطاع غزة منذ فجر اليوم    ملتقى التفسير بالجامع الأزهر: حديث القرآن الكريم عن الليل والنهار شامل ودقيق لإظهار التعبير والمعنى المراد    ما الضوابط الشرعية لكفالة طفل من دار الأيتام؟.. الإفتاء توضح    المفتي يوضح حكم كيِّ الماشية بالنار لتمييزها    الزراعة تطلق منافذ متنقلة لبيع منتجاتها للمواطنين بأسعار مخفضة فى الجيزة    النفط والضرائب والسوق السوداء.. ثلاثية الحوثيين لإدارة اقتصاد الظل    وصول الطفل ياسين مع والدته إلى محكمة جنايات دمنهور مرتديا قناع سبايدر مان    المؤبد لطالب وشقيقه بتهمة قتل سيدة بمركز البلينا فى سوهاج    فات الميعاد.. أحمد مجدي: شخصية مسعد تعبتني.. وبحاول أتخلص منه لحد دلوقتي    الجامعة الألمانية تفتتح نموذجاً مصغراً للمتحف المصري الكبير في برلين    السيطرة على حريق في مصنع زجاج بشبرا الخيمة    اليوم.. أولى جلسات محاكمة 39 متهما ب«خلية العملة»    التنمية المحلية تستعرض أبرز ملامح التجربة المصرية في توظيف نظم المعلومات الجغرافية    أسامة الجندي يوضح حكم الأفراح في الشرع الشريف    الشركة الوطنية للطباعة تعلن بدء إجراءات الطرح فى البورصة المصرية    حسن الصغير رئيسًا لأكاديمية الأزهر لتدريب الأئمة والدعاة    وزير العمل: التأمين الطبي لعمال «الدليفري» من ضمن أشكال السلامة المهنية    سوداني يوجه رسالة شكر للمصريين على متن «قطار العودة»: «لن ننسى وقفتكم معنا» (فيديو)    استمتع بمذاق الصيف.. طريقة عمل آيس كريم المانجو في المنزل بمكونات بسيطة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 21-7-2025 في محافظة قنا    أوكرانيا: مقتل شخص وإصابة اثنين آخرين في أحدث الهجمات الروسية    زعيم المعارضة الإسرائيلية: نهاجم في الشرق الأوسط حيثما نشاء دون سياسة واضحة    ناقد رياضي يكشف تطورات صفقة وسام أبو علي بعد الأزمة الأخيرة    ألونسو.. الأمل في استعادة فينيسيوس لتألقه مع ريال مدريد    تعرف على حالة الطقس اليوم الإثنين فى الإسماعيلية.. فيديو    "صعبة".. وكيل مصطفى شلبي يكشف تفاصيل انتقاله للبنك الأهلي    الشناوي يتحدث عن صعوبة المنافسة على الدوري.. وتأثير السوشيال ميديا    أنغام فؤاد ومنيب تتألق في صيف الأوبرا 2025 بحضور جماهيري كبير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإخوان والفن
نشر في الأهرام اليومي يوم 07 - 07 - 2012

كان يدرك تماما معني اندماج الفنان وتقمصه للشخصية التي يؤديها علي خشبة المسرح‏,‏ لكن ما قد يسرق عين المشاهد ليأخذها بعيدا عن الأحداث هو ما قد رآه‏,‏ وما قد لمسه‏. وما كتب عنه حسن البنا بخط يده في إحدي مقالاته, وذلك عندما لمح ما أحرجه من الفنانة القديرة عزيزة أمير أثناء تأديتها لدور بثينة في مسرحية جميل وبثينة التي قام بكتابتها شقيقه عبدالرحمن البنا العضو البارز في جماعة الإخوان المسلمين, وأخرجتها فرقة الإخوان المسرحية علي نفقتها عام1934 ضمن ثماني مسرحيات قام ببطولتها باقة من أبرز النجوم علي رأسهم جورج أبيض, وعباس فارس, وحسن البارودي, ومحمود المليجي, وفاطمة رشدي وعزيزة أمير, وانضم إليهم في الأربعينات كل من عبدالمنعم مدبولي, وإبراهيم الشامي, وسراج منير, ومحمد السبع, وعبدالبديع العربي, وشفيق نور الدين, وسعد أردش, والأخوان حمدي غيث وعبدالله غيث, وإبراهيم سعفان.. وغيرهم لمح حسن البنا البرامادونا عزيزة أمير أثناء اندماجها في أداء مشهد المطاردة الرومانسية التي يلاحقها فيها جورج أبيض عندما تجري علي خشبة المسرح فتتطاير أكمامها الواسعة ليكشف الاتساع عمق الذراعين.. هنا دفعه الحرج إلي لفت نظر النجمة فلم تستنكف من ربط الأكمام بالأستيك لتضييقهما نزولا علي رغبته لترمح باحتشام أثناء مطاردة أشعار الهيام التي يلاحقها بها جميل مثل:
يموت الهوي مني إذا ما لقيتها
ويحيي إذا فارقتها فيعود
لئن كان في حب الحبيب حبيبه
حدود لقد حلت علي حدود
إذا قلت: رد يا بثينة بعض عقلي أعش به
مع الناس قالت: ذاك منك بعيد
ورغم أن جميل وبثينة مجرد مسرحية عاطفية, فإن الدافع الأساسي لاختيارها كما قال حسن البنا كان الغيرة علي الإسلام والعروبة, فقد وجد أن هناك فراغا كبيرا لم يسده الفنان العربي في هذا المجال, ومن هنا تساءل في مقدمة المسرحية التي تم نشرها مع مسرحيات الإخوان الأخري ضمن مطبوعات مكتبة مصر: لماذا نستجدي من الغرب قصصه وحوادثه فنذكر( روميو وجولييت) ونحتفي ب(غادة الكاميليا) ولا نعود إلي شرقنا فنقتبس النور من إشراق سمائه, ونغرف الحب من طهارة أبنائه, فالأعمال العاطفية ليست مرفوضة لذاتها, ولكن الأمر يتوقف علي المدخل الذي يلج منه المؤلف للموضوع, فهو يعالج العاطفة الجارفة بضبطها, فرغم شدة الحب والتعلق بين الحبيبين, ورغم ظلم البيئة والمجتمع, ورغم عدالة قضيتهما, ورغم سنوح الفرصة للارتشاف من اللذة, فإنهما لا ينزلقان, والعامل الأساسي في ذلك عروبتهما وإسلامهما.
حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين صاحب المكتبة التي حوت عدة آلاف من الكتب, الذي أمضي19 عاما مدرسا بالمدارس الابتدائية في الإسماعيلية ثم القاهرة من بعد تخرجه من دار العلوم عام1927 ليقدم استقالته في عام1946 متفرغا للعمل الصحفي في جريدة الإخوان المسلمين اليومية التي يتركها ليصدر مجلته الخاصة الشهاب ابتداء من عام..1947 لم يقف من الفن مجرد موقف المنظر, أو مبدي الرأي الفقهي فقط, أو الداعي نظريا إلي تبني الفن دون ممارسته, فقد قام البنا بالتطبيق إلي جانب التنظير, فأفسح للفن مساحة محمودة في نشاط جماعة الإخوان وذلك بتكوين عدة فرق مسرحية كان أشهرها فرقة القاهرة, وكان العاملون في تلك الفرق لا يستبعدون حضوره في أي لحظة لحرصه علي حضور البروفات بنفسه للاطمئنان علي جودة الأداء.. وقد قام البنا بتدريب طلبة الثانوي علي الأداء المسرحي وتعميم الفكرة علي معظم شعب الإخوان علي مستوي جميع المحافظات لتكون في الريف والمناطق النائية بمثابة البديل عن دور السينما والراديو, وذلك لإيمانه بأن الفن أسرع طريق عن أي وسيلة أخري لغرس القيم الأخلاقية وتأصيلها في النفوس, وأن الفنون الجميلة ليست من الكماليات يمكن الاستغناء عنها بل هي أنشطة إنسانية واجتماعية لصيقة بحياة الناس ومتطلباتهم وطموحاتهم, ومن يرفض من المتشددين التمثيل بدعوي أنه بدعة مستحدثة, وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار, وبدعوي أنه لهو وتسلية مرفوضة وضياع للوقت فقد تناولت مجلة الإخوان الأسبوعية الرد علي مثل هذه الدعاوي, حيث بين كاتبها أن التمثيل وإن كان بدعة, لكن ليس كل بدعة مكروهة, فهناك من البدع والمستحدثات ما لم يكن في عهد الرسول, ومع ذلك دعت إليه الضرورة, واقتضاه أسلوب العصر, كما أنه ليس كل لهو باطلا يحرم الاشتغال به, ولا يعد تناول التاريخ الإسلامي فنيا وتصوير بطولات المجاهدين والمواقف النبيلة التي تهز المشاعر لهوا محرما, وأما موضوع التسلية فما المانع أن يقضي المرء ساعة في تسلية بريئة إن لم ينتج عنها خيرا فلا ينتج عنها شرا, وقد ورد أن القلوب في حاجة إلي الترويح, وأن القلوب إذا ملت عميت. وإذا ما كانت الرياضة تغذي الجسم, والعبادة تغذي الروح, والعلم يغذي العقل, فإن الفن الراقي الذي يسمو بالإنسان يغذي الوجدان..
ومن متابعتي لما كتبه كل من الدكتور حمادة حسني الأستاذ المساعد للتاريخ الحديث بجامعة قناة السويس والأستاذ عصام تليمة وجدت أنه مما ساعد البنا في نجاح تجربته الفنية التي لم تستمر للأسف أكثر من عشر سنوات أنه ارتكز بشكل أساسي علي المتخصصين في جميع مجالات الفن بداية من حسن اختيار النصوص والنجوم وطرق الدعاية.. وكان من أكبر العوامل المساعدة لازدهار التجربة الحضارية تلك الزمن الجميل الذي ولدت في مناخه الصحي والذي كان يسمح بصعود الفن الملتزم, ولا يري فيه حرجا أو خروجا عن تعاليم الدين.. وقد مضي البنا قدما في هذا الطريق المفروش بالنور حتي أنه كان حريصا علي أن تكون هناك سهرة لمشاهدة الأوبرا المصرية في برنامج كل ضيف زائر لمصر وغالبا ما كان يصحبه إليها, وفي رواية لسكرتيره محمود أبورية أنهم ذهبوا مرة كعادتهم باصطحاب أحد الضيوف للأوبرا ولما لم يجدوا عددا كافيا من التذاكر طلب منهم الأستاذ البنا الدخول مع الضيف لينتظرهم مضحيا بالمشاهدة في مكان آخر حتي موعد نهاية العرض.. زمن الثلاثينيات السلمي الجميل الذي كان فيه شيخ الأزهر محمد مصطفي المراغي من هواة حضور حفلات الأوبرا, وأبدا لم ينتقد ذلك الحضور أحد من علماء عصره, وجاءت الثمانينيات بصهدها القادم من بلاد النفط لتكتب مجلة التوحيد التي تصدر عن جماعة أنصار السنة بعدما نبشت في تاريخ الرجل لتمطره بوابل من الهجوم بعنوان عمائم في الأوبرا مما يضطر نجله الدكتور إسماعيل المراغي لكتابة توضيح في الفارق بين أوبرا الماضي وأوبرا الحاضر!!.. هذا وكان من بين الفنانين من يحمل لقب الشيخ ويباهي به ولا يجد حرجا في أن يرتدي العمامة ويعمل بين أهل الطبقة الفنية التي لا ترفضه بل تستوعبه فردا مؤثرا بينها, ومن هؤلاء الشيخ سلامة حجازي, والشيخ زكريا أحمد, والشيخ إمام عيسي, والشيخ سيد مكاوي.. ويكتب خالد محمد خالد في مذكراته مشيدا بنزهة مشي فيها مع الشيخ محمد الغزالي معممين, فإذا بصوت عبدالوهاب يشدو من إحدي النوافذ بأغنية الجندول فتجاوب الغزالي طربا واضعا يدا معبرة فوق موضع القلب... ولم يتراجع المد الإخواني المسرحي في المحافظات اللهم إلا بعد قيام فرقة شعبة طنطا المسرحية بتمثيل مسرحية الأضحية عندما ظهرت شخصية النبي إسماعيل عليه السلام وإلي جانبها كبش حقيقي..
ولم يقتصر مسرح الإخوان علي تقديم جميع أنواع المسرحيات حتي الكوميدي منها فقط, بل قام بتقديم عروض ناجحة في مجال الأوبريت الغنائي أيضا, وكان عبدالباسط عبدالرحمن شقيق حسن البنا وله من الأشقاء أربعة مؤلفا للعديد من الأوبريتات التي تتناول موضوعات تاريخية واجتماعية وفنية ومنها: إبراهيم باشا منتصرا والجندي المجهول ومجد العروبة وإكليل الغار والأنشودة الفائزة ونشيد المبرة, وشاهدت خشبة مسرح الإخوان أوبريتات باللهجة العامية مثل معجزة الزمان والزمان يتكلم, وقد كان الزجل من الفنون الأدبية التي ظهرت مبكرا لدي الإخوان, وقد نشرت مجلتهم عدة إعلانات عن دواوين زجلية في مايو1936 لزجال الإسماعيلية أبوهندية التي قال في إحداها بعنوان لازم تخالف هواك:
جري إيه يا سيدنا الأفندي.. ما تفوق لدينك شوية
دا العمر منك معدي.. والله صعبان علي
حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان الذي ولد في مدينة المحمودية عام1906 لأسرة يعمل فيها والده مأذونا وساعاتي.. تبلورت في رأسه فكرة الإخوان وهو طالب بدار العلوم فكتب موضوعا إنشائيا كان عنوانه ما هي آمالك في الحياة بعد التخرج فكتب عن أمله العام: أريد أن أكون مرشدا في تعليم الأبناء والآباء أهداف دينهم تارة بالخطابة والمحاورة, وأخري بالتأليف والكتابة, وثالثة بالتجول والسياحة, ولقد أنجب البنا ولدين أحمد ومحمد, وست بنات هن وفاء وسناء ورجاء وصفاء وهالة واستشهاد والأخيرة ولدت من بعد رحيله.. حسن البنا الذي قام بتصحيح وتنقيح ديوان صريع الغواني للشاعر مسلم بن الوليد الأموي وهو لم يزل مدرسا بالمدارس الأميرية, والذي قام بطباعته محمد أحمد رمضان المدني صاحب مكتبة المعاهد العلمية في الصنادقية بالقاهرة, وذلك طبقا لما نشرته الحياة اللندنية في عددها الصادر في9 يونيه الماضي.. البنا الذي كتب موجها كلامه إلي الإخوان: إن الناس يعيشون بغير قلوب, وقد ربطتم قلوبكم وجهادكم بالله العلي القدير الذي يقول( فاذكروني أذكركم) فادرسوا وتفقهوا في مبادئكم العالية, وتمعنوا في كتاب الله جيدا, إن الإخوان المسلمين لا يحاربون المسرح ولا المذياع, لأنهم ليسوا من الجمود بحيث يقفون هذا الموقف, ولذلك فهم قد أعدوا للمسرح قصصا كريمة وأدبا رائعا ومثلا وتوجيها صادقا..
وكان للبنا نهج وتقليد في جريدة الإخوان المسلمون اليومية, لم يظهر في أي صحيفة إسلامية أخري في وقته أو بعدها, فقد كان يخصص في إحدي صفحات الجريدة برامج الإذاعة المصرية, بداية بالقرآن الكريم, ومرورا بأغاني عبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهما, وكان يضع تحت عنوان الباب الإذاعي قوله تعالي: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا.. وكان فن الكاريكاتير من الفنون التي ظهرت بتوسع في مجلات الإخوان في الأربعينيات متناولا بالأسلوب الساخر أمور الحكم والانتخابات, وكان من الأسماء البارزة في عالم الكاريكاتير التي ساهمت في مجلات الإخوان بمبادرات شخصية بلا مقابل كل من طوغان, وصاروخان, وزهدي ورخا.. وإلي جانب الكاريكاتير حفلت الصفحات بالرسوم واللوحات, وأعلن البنا عن إنشاء قسم وصفحة للأخوات المسلمات تحت عنوان: نداء من السيدة لبيبة هانم مسئولة القسم تدعو أخواتها المسلمات للتعاون معها في المجال الصحفي, وقد أثني البنا علي ندائها بتعقيب قدمها فيه كمثال للمسلمة الصالحة بعد أن وضع صورتها الشخصية علي رأس الصفحة وليس وردة ليتوالي بعدها نشر صورته وصور الكتاب وعناوينهم من باب التعارف.. وتأتي بعدها مجلة الشهاب آخر مجلات البنا إصدارا لتسير علي نفس المنوال فتفرد صفحتين في نهايتها لنشر صور العلماء والمفكرين والدعاة.
ولعل أكثر ما ساعد البنا في تجربته الفنية أنه تبني فقه التيسير في قضايا الفن, وهو في ذلك لا يخالف الشريعة, بل هو ملتزم بروحها ونصها ومقاصدها, وهو ما أمر به الرسول أصحابه والمسلمين جميعا فقال: يسروا ولا تعسروا, وبشروا ولا تنفروا, وهو منهجه صلي الله عليه وسلم الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. ولو أن البنا وقف عند الجدل الطويل ما بين التشدد والتيسير الذي لا يقتنع فيه فريق برأي الفريق الآخر, لما تحرك للعمل الذي يأتي بالثمار.. ولأنه كان راعيا لفن التمثيل والمسرح في الثلاثينيات فقد امتدت عري تلك العلاقة للأربعينيات عندما جمعه لقاء المصادفة مع النجم أنور وجدي ليكتب عنه الدكتور محمود عساف بالتفصيل في مؤلفه روح وريحان يقول: في يوم من أيام صيف1945, وكان الجو صحوا ونسمة خفيفة تداعب الشجر في ميدان الحلمية الجديدة, وكنت وقتها عضوا منتدبا لشركة الإعلانات العربية, فذهبت كعادتي كل يوم لأتلقي تعليمات الأستاذ فوجدته غير مشغول بضيوف, فقال لي: قم بنا نذهب إلي البنك العربي لنفتح حسابا للإخوان هناك ولم يكن للإخوان حساب بأي بنك حتي ذلك الوقت.. ركبنا الترام من شارع محمد علي أمام مسجد قيسون متوجهين إلي العتبة, ومن هناك سرنا علي الأقدام إلي ميدان الأوبرا إلي شارع قصر النيل حيث البنك العربي.. توجهنا إلي مكتب رئيسه عبدالمجيد شومان وكان يتبع سياسة الباب المفتوح, وألقينا السلام وجلسنا علي أريكة مواجهة للمكتب, وكان هناك رجل جالس علي مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحونا يحادث الرئيس, وأثناء انتظارنا الصامت فاجأنا شومان بك بقوله: أهلا وسهلا بصوت عال مما جعل الجالس إلي مكتبه ينظر إلينا, وإذا به ينتفض واقفا هاتفا: حسن بك.. أهلا وسهلا يا حسن بك ويتقدم مصافحا مقدما نفسه: أنا أنور وجدي.. المشخصاتي.. يعني الممثل.. طبعا أنتم تنظرون إلينا ككفرة نرتكب المعاصي كل يوم في حين أني والله العظيم أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعا.. وكانت المفاجأة لي أننا لم نكن ننادي فضيلة الأستاذ أبدا بلقب بك.. ووجدته يقول للنجم الكبير: يا أخ أنور أنتم لستم كفرة ولا عصاة بحكم عملكم, فالتمثيل ليس حراما في حد ذاته, ولكنه حرام إذا كان موضوعه حراما, وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمي للإسلام إذا عملتم علي إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعو إلي مكارم الأخلاق, وأنني أرحب بك وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به في نشر الفضيلة.. وعندما سمع أنور وجدي ذلك الرد الجميل من البنا بكي وقبل رأسه, ورأينا بعدها لأنور وجدي فيلم ليلي بنت الفقراء.. وكان حسن البنا وراء إسلام المطربة ليلي مراد.. ولم تقتصر هذه الرؤية علي حسن البنا فقط وإنما امتدت إلي سيد قطب أيضا الذي ارتبط بعلاقة صداقة مع الفنان حسين صدقي الذي ذهب إليه يطلعه علي نيته للاعتزال عن التمثيل فقال له: إنني أكتب عشرات المقالات, وأخطب عشرات الخطب, وأنت بفيلم واحد لك تستطيع أن تقضي علي كل ما قلت وكتبت أو أن تدعمه, وأنصحك بالاستمرار بأفلام هادفة... واستمر حسين صدقي في العطاء لينهي حياته بعدة أفلام جيدة منها فيلم عنوانه الشيخ حسن الذي شاركته بطولته ليلي فوزي وكان يرتدي فيه الكاكولا والعمامة الأزهرية..
وعندما نتساءل عن سبب نجاح التجربة الفنية في عهد حسن البنا وإخفاقها من بعده بل واختفاء الفن عامة في جماعة الإخوان المسلمين إلي فترات ليست بالقصيرة بعد خروجهم من السجن في بداية السبعينيات, حيث لا تعدو محاولاتهم بعدها في هذا المجال سوي نشاطات هواة.. الأسباب تعود حتما إلي تأثر الخطاب الإخواني الواضح بالخطاب السلفي المتشدد, وساعد في ذلك أمران أحدهما سفر عدد من علمائهم ومفكريهم إلي دول الخليج وتأثرهم بالجو العلمي هناك مما نضح علي كتاباتهم وأفكارهم, إلي جانب انتعاش المنهج السلفي في تلك البلاد انتعاشا اقتصاديا مما جعل حركة توزيع الكتب المجانية التي تدعو لهذا المنهج تغزو بلادنا وتصنع أرضية لهذا الفكر المتشدد.. ومن أسباب عدم خروج الفن لساحة الإخوان ثانية انتشار مبدأ سد الذرائع بين أبناء الحركة الإسلامية الذي يستند علي القول بالباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح أي إغلاق باب المباح بدلا من فتحه وذلك خوفا من أن يفتح بذلك باب للهجوم علي الدعوة من خصومها, ولو كان ذلك علي حساب ترك المباح, أو المختلف فيه, وما أباحه عدد من العلماء!!! وأخيرا وليس آخرا حوادث العنف التي مارسها التنظيم الخاص داخل الإخوان غير المبررة وغير المسئولة التي حولت علاقة الود والمحبة والصداقة بالإخوان إلي علاقة عداء وحرب مما جعل كاتبا كبيرا مثل عباس محمود العقاد الذي كانت علاقته طيبة بحسن البنا ينقلب إلي خصم عنيد وشديد وذلك بعد مقتل النقراشي علي يد بعض أفراد التنظيم الخاص, فالنقراشي كان صديقا عزيزا للعقاد.. وكذلك قام بنفس الدور عدد من المثقفين بعد حادث المنشية ومن بعدها حادث المنصة والاعتداء علي نجيب محفوظ.. والسؤال فيما إذا كان الإخوان حقيقة قد انقلبوا علي تعاليم البنا وأداروا ظهورهم للجانب المضيء من حياته كما يؤكد أخلص تلاميذه من أمثال الشعراوي والغزالي والباقوري؟!
وتكشف مراحل العلاقة ما بين المفكر الإسلامي سيد قطب أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين الذي بدأ حياته ناقدا أدبيا وكان من أنجب تلاميذ العقاد وبين نجيب محفوظ عميد الرواية العربية وصاحب نوبل.. تكشف المراحل حقيقة ما كان وما جري في مسألة انحسار ممارسة الأدب والفن علي شاطئ الإخوان.. ففي البدء وسط مناخ فكري وثقافي وحضاري كانت تعيشه وتنعم به مصر في الأربعينيات من القرن الماضي تبني الناقد سيد قطب إبداع نجيب محفوظ ليقدمه لقراء العربية من خلال روايته كفاح طيبة قائلا عنها وقت صدورها عام1944: إن الرواية ملحمة وإن لم تكن شعرا ولا أسطورة, ولو كان لي من الأمر شيء لجعلتها في يد كل فتي وفتاة, ووزعتها علي كل بيت بالمجان, وأقمت لصاحبها الذي لا أعرفه حفل تكريم في كل مكان.. وبعدها بأقل من عام كتب قطب مقالا في مجلة الرسالة عن رواية محفوظ القاهرة الجديدة يشيد فيه ببنائها ويعتبرها فتحا جديدا في الرواية العربية.. و..تمضي مشاهد العلاقة بأحداثها علي مر السنين ليكتب نجيب مخاطبا سيد قطب صاحب كتاب التصوير الفني في القرآن: ألم نقرأ القرآن؟ بلي. وحفظنا في زمن سعيد مضي ما تيسر من سوره وآياته, وكان ومايزال له في قلوبنا عقيدة وفي وجداننا سحر, بيد أنه كان ذاك السحر الغامض المغلق, تحسه الحواس, ويهتز له الضمير, دون أن يدركه العقل أو يبلغه التذوق, كان كالنغمة المطربة التي لا يدري السامع لماذا ولا كيف أطربته, فجاء كتابك كالمرشد للقارئ والمستمع العربي من أبناء جيلنا, يدله علي مواطن الحسن ومطاوي الجمال, ويجلي له أسرار السحر ومفاتن الإبداع.. كان القرآن في القلب فصار ملء القلب والعين والأذن والعقل جميعا..... وتترك شخصية سيد قطب تأثيرها علي نجيب لدرجة أنه وضعها ضمن الشخصيات المحورية التي تدور حولها روايته المرايا مع إجراء بعض التعديلات, ولكن القارئ المدقق يستطيع أن يدرك أن شخصية عبدالوهاب إسماعيل فيها ملامح كثيرة من سيد قطب.
وتمضي سنين العلاقة ليكتب نجيب خاتمتها بعد اللقاء الأخير: سيد قطب هو أول ناقد أدبي التفت إلي أعمالي وكتب عنها في الأربعينيات, وتعرفت عليه في ذلك الوقت حيث كان يجيء بانتظام للجلوس معنا في كازينو أوبرا, وكانت العلاقة التي تربطنا أدبية أكثر منها إنسانية.. ميز سيد قطب في تلك المرحلة تحرره وذكاءه وموهبته الأدبية إذ كان من تلاميذ العقاد المخلصين, والعقاد علي ما أذكر هو الذي توسط له لدي النقراشي باشا لإرساله في بعثة دراسية للولايات المتحدة من عام1949 حتي1951, وكنت أعده لسنوات طويلة من رواد الاستنارة والفكر الجرئ المتحرر, وكان آخر لقاء جمعنا في بيته بحلوان حيث ذهبت لزيارته في عام1964 بصحبة آل السحار عقب خروجه من السجن بعفو صحي رغم معرفتي بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن أن تسببه لي من متاعب أمنية.
في تلك الزيارة تحدثنا في الأدب ومشاكله, ثم تطرق الحديث إلي الدين والمرأة والحياة, وكانت المرة الأولي التي ألمس فيها بعمق مدي التغيير الكبير الذي طرأ علي شخصية سيد قطب وأفكاره.. لقد رأيت أمامي إنسانا آخر.. حاد الفكر.. متطرف الرأي.. يري أن المجتمع عاد إلي الجاهلية الأولي وأنه مجتمع كافر لابد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقا من فكرة الحاكمية لا حكم إلا لله.. وسمعت منه آراءه دون الدخول معه في جدل أو نقاش.. فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلي تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب؟!!.
و.. من قبل وبعد..
مصر مرسي الذي نسي من قبيل القصد أو السهو الفن وأهله في خطابه الأول, ثم عاد في عود حميد ليرحب به في خطابه الثاني الذي فتح فيه مطمئنا صدره.. مصر التي بدعت الفنون قد زهدت المظاهرات والاعتصامات والملصقات والخيمات والمليونيات ووقفت تنتظر عودة ألحان حب جميل وبثينة وقيس وليلي.. و..أنساك يا سلام.. و...شوف الزهور واتعلم!!!
[email protected]
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.