مرة أخرى.. ومع طرح الإخوان المسلمين لبرنامجهم في مرحلة ما بعد الثورة، يعود الجدل مجددًا حول علاقة الإخوان بالفن، ومدى تقبل الجماعة للإبداع، في حالة وصولهم إلى أماكن صنع القرار في مصر. تكمن المفاجأة في أنه عند البحث في تاريخ الإخوان المسلمين- وبالذات في عهد "حسن البنا"- فسوف نجد اهتمامًا غير مسبوق للجماعة بالفن بصفة عامة، والمسرح بصفة خاصة، ولزميلنا الأستاذ "عصام تليمة" دراسة قيمة ترصد تجربة الفن عند "البنا"، وفيها يخلص إلى أن الإخوان تعدّوا مرحلة الاهتمام بالفن فقط، إلى مرحلة الإبداع فيه، لدرجة أن أسماء مثل "محمود المليجي" و"عبد المنعم مدبولي" و"جورج أبيض" و"فاطمة رشدي" شاركت الإخوان في مسرحهم، وكانت بداية تألقهم من خلال مسرحيات قام الإخوان بتأليفها، لم يكن أعضاء الفرقة من تنظيم جماعة الإخوان فقط ، بل رأينا عدداً من فرقته ليست له علاقة تنظيمية بالإخوان ، كما استعان في العمل المسرحي والدعاية بالعنصر النسائي وبغير المسلمين، بالإضافة إلى أن زيارة حفلات دار الأوبرا المصرية كانت أحد الفقرات الهامة في برنامج زيارة ضيوف الإخوان من الخارج. المفاجأة الأخرى في تاريخ الإخوان مع الفن تتمثل في العلاقة المتميزة التي أقامها الإخوان مع الكثير من فناني ذلك العصر، فحين جمع اللقاء "حسن البنا" مع "أنور وجدي"، كان الانطباع السائد في ذهن "وجدي" أن الإخوان ينظرون إلى الفنانين ككفرة يرتكبون المعاصي، في حين أنه بصفة شخصية يصلي ويقرأ القرآن كلما كان ذلك مستطاعاً، وكان تعقيب "البنا" له في منتهى الهدوء، بأن التمثيل ليس حراماً في حد ذاته، ولكنه حرام إذا كان موضوعه حراماً، وتبقى لديهم القدرة على تقديم خدمة عظمى للإسلام إذا عملوا على إنتاج أفلام أو مسرحيات تبني وتفيد المجتمع، وحينها سيكونون أكثر قدرة على نشر الدعوة الإسلامية من كثير من الوعاظ وأئمة المساجد، كما رحب به "البنا" وطلب منه أن يزوره بدار الإخوان المسلمين لتبادل الرأي، وعندما سمع"أنور وجدي" هذا الرد الجميل من "البنا" بكى وقبل يده ورأسه، وبعدها رأينا ل"وجدي" فيلم" ليلى بنت الفقراء". لم تقتصر هذه الرؤية على "حسن البنا" فقط، وإنما امتدت أيضا إلى "سيد قطب" الذي كان يرتبط بعلاقة صداقة مع الفنان "حسين صدقي"، وحينما ذهب إليه يخبره أنه ينوي اعتزال التمثيل وتركه نهائياً، قال له "سيد قطب": إنني أكتب عشرات المقالات، وأخطب عشرات الخطب، وبفيلم واحد تستطيع أن تقضي على ما فعلته أنا أو تقويه، أنصحك أن تستمر ولكن بأفلام هادفة، وبالفعل ختم "حسين صدقي" حياته الفنية بعد ذلك بفيلمين استطاع من خلالهما تحقيق تلك النصيحة. كانت باكورة أعمال الإخوان المسلمين المسرحية -وعلى غير المتوقع- من خلال مسرحية "جميل بثينة"، وهي المسرحية التي قام بتأليفها "عبد الرحمن البنا" العضو البارز في الإخوان المسلمين، والمرشح فيما بعد لخلافة أخيه "حسن البنا" في قيادة الجماعة، لم يجد حرجًا في تقديم هذا العمل، الذي أنتجته "لجنة تشجيع التمثيل" التابعة لوزارة المعارف، وقررت إخراجها على نفقتها عام 1934، لما وجدت فيها من معان طيبة وقيم رفيعة، وقد حققت المسرحية نجاحًا لافتًا وصارت موضع للمقارنة مع رائعة أمير الشعراء "مجنون ليلى"، فنظرة واحدة إلى الأسماء التي شاركت في هذا العمل تبين مدى حِرفية هذه المسرحية؛ إذ تضم قائمة النجوم: جورج أبيض، عباس فارس، حسن البارودي، محمود المليجي، ومن العناصر النسائية: فاطمة رشدي وعزيزة أمير. وبالرغم من أن القصة الأساسية للمسرحية عاطفية، فإن الدافع الأساسي لاختيارها كان الغيرة على الإسلام والعروبة، فقد وجد "البنا" فراغًا كبيرًا لم يسده الفنان العربي؛ فتساءل في مقدمة المسرحية: "لماذا نستجدي من الغرب قصصه وحوادثه فنذكر "روميو وجولييت" ونحتفي ب "غادة الكاميليا".. ولا نعود إلى شرقنا، فنقتبس النور من إشراق سمائه، ونعرف الحب من طهارة أبنائه، فالأعمال العاطفية ليست مرفوضة لذاتها، ولكن الأمر يتوقف على المدخل الذي يلج منه المؤلف للموضوع، فهو يعالج العاطفة الجارفة بضبطها، فرغم شدة الحب والتعلق بين الحبيبين، ورغم ظلم البيئة والمجتمع، ورغم عدالة قضيتهما، ورغم سنوح الفرصة للارتشاف من اللذة، فإنهما لا ينزلقان، والعامل الأساسي في ذلك عروبتهما وإسلامهما. وكما لم يجد "البنا" حرجًا من تناول الأعمال الرومانسية، فإنه لم يجده كذلك في ظهور الممثلات على خشبة المسرح، ساعده على ذلك البيئة العربية التي استمد منها معظم أعماله، والتي فرض جوها على الممثلات الظهور برداء محتشم يتلاءم مع جو النص، ومن طرائف ذلك ما رواه "البنا" في إحدى مقالاته أنه وجد حرجًا من الفنانة "عزيزة أمير"، حيث كانت ترتدي فستانًا بكم طويل، لكنه واسع لدرجة تجعل ذراعيها تظهران، وحين لفت انتباهها لذلك لم تستنكف أن تربط هذا الكم بخيط لتضيقه نزولاً على رغبة المؤلف. كانت الخطوة التالية "للبنا" هي تأسيس فرقة مسرحية خاصة للإخوان المسلمين ليبدأ بعرض مسرحياته التي بلغت ثماني مسرحيات متميزة، ووصل الأمر بالإذاعة إلى نقلها على الهواء مباشرة. [email protected]