التكنولوجيا لم تعد صديقة الأمن. ثمة حرب باردة بين مفاهيم عصر ما بعد الحداثة، والأجهزة والوكالات القائمة على حماية هذه المفاهيم. واتساب وسيغنال هى تطبيقات مؤمّنة جيدا، بحيث لا يستطيع أحد أن يرى محتوى رسائله سوى الراسل والمتلقى بهدف حماية الخصوصية. فى هذا الزمن الخصوصية صارت إبرة فى كومة من القش. هذا عصر بلا نوافذ، يتآكل افتراض الخصوصية فيه كل يوم، وتتراجع مقاومة المجتمع أمام ضروراته. لم يعد هناك مفر من السير إلى قدر الإنسانية الحتمي: أتمة كل شيء، من الخادمة فى المنزل وحتى مدير البنك. هذا العالم الجديد ليس بسيطا ولا حسيا يمكن الإمساك به أو التعامل معه من خلال الأبعاد التقليدية التى تستطيع حواس الإنسان استيعابها. كل المعاملات اليوم تتم عبر أكواد وشفرات تحوى حلقات متتابعة ترتبط ببعضها بعضا كى تتم العملية فى النهاية. شيء معقد تماما بالنظر إلى بعده عن أساليب الرقابة القديمة. وكالات الاستخبارات غير مرتاحة لذلك. هذه عقلية أمنية تريد أن تكون جزءا من كل شيء يحدث فى المجتمع. رجل الأمن بطبيعته يكون قد فشل فى مهمته إذا لم يكن على دراية كاملة بهذه الطرق الجديدة التى تسير حياة يومية يعتبر نفسه مسئولا عن إبقائها سارية. مجرد وقوفه أمام تطبيقات على الهاتف الذكى أو أجهزة الكومبيوتر اللوحى دون فهم ما يحدث بداخلها هو أمر مزعج يشعره بالعجز وقلة الحيلة. تخيل إذا ما كان هذا التطبيق السرى المعقد يشكل ملاذا آمنا لإرهابيين أو جواسيس مثلا، ماذا سيكون رد فعل الضابط الذى بات مع الوقت يحمل عداء فعليا لهذه التكنولوجيا وكل القائمين عليها؟ هذا هو ما يشكل منطلقات وزيرة الداخلية البريطانية أمبر رود عندما هاجمت شركة واتساب الشهر الماضي. رود، المعروفة بحماسها الكبير وصلابتها وطموحها، شعرت بأنها لا تعرف ماذا تقول. هى لا ترى فى واتساب سوى صخرة صماء لا يستطيع أحد النفاذ إلى ما بداخلها. عودة النقاش حول صراع التكنولوجيا والأمن بعد هجوم لندن هى امتداد لمعركة القط والفأر الدائرة منذ عامين فى الولاياتالمتحدة. هذا البلد هو موطن كل عمالقة التكنولوجيا تقريبا. العقلية الأمنية فى سى آى ايه تختلف عن سلوك كل أجهزة الاستخبارات الأخرى. كل الطرق أمام الوكالة سالكة فى سبيل الوصول إلى المعلومات، سواء كانت هذه الطرق مشروعة أو غير مشروعة. هنا وقعت سى آى ايه فى خطأ فادح. وثائق ويكيليكس الأخيرة عن أساليب تجسس الوكالة هى مانيفستو عملى لهذا الخطأ. أمام تعنت التطبيقات المشفرة،وصلت الوكالة إلى اقتناع بأنها لم تعد فى حاجة إلى اختراقها. المتخصصون هناك صاروا قادرين على اختراق أنظمة تشغيل الهاتف أو الكومبيوتر اللوحى نفسها، إذا كانت «أى او اس» أو «اندرويد» أو «ويندوز». هذه الاختراقات تتم عبر ثغرات لم تغلقها شركات التكنولوجيا خلال مرحلة التصنيع والبرمجة. اكتشاف هذه الثغرات كان نجاحا بالنسبة لضباط الاستخبارات الأمريكيين، لكن عدم ابلاغ شركات مهمة مثل أبل أو مايكروسوفت لإغلاقها، كان إخفاقا كبيرا. لا يستخدم الناس العاديون وحدهم التكنولوجيا. مَن مِن المسئولين الأمريكيين اليوم لا يملك هاتف أيفون أو أيباد أو جهاز كومبيوتر من مايكروسوفت. كل المعاملات والتعليمات والأوامر اليومية فى الكونجرس وفى القطاع المصرفى والجهاز الإدارى للدولة تمرر فى أغلبها من خلال هذه الأجهزة. السياسيون والوزراء والموظفون فى البيت الأبيض أو حتى فى وكالات الأمن لا يستطيعون العيش من دون إرسال الرسائل النصية أو رسائل البريد الإلكترونى أو استخدام تطبيقات التواصل بشكل يومي. التغاضى عن الثغرات واخفائها عن شركات التكنولوجيا فتحا الطريق أمام الاستخبارات المعادية لمراقبة المسئولين الأمريكيين أنفسهم. الروس والصينيون ليسوا سذجا. نجاح الاستخبارات الروسية فى اختراق أجهزة الكومبيوتر المركزية فى الحزب الديمقراطى قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية كان مثالا على ذلك. ليس صحيحا أن الضابط الجالس فى مقر سى أى ايه فى لانجلى يراقب هواتف الناس ويخترق أجهزة التليفزيون الذكى فى غرف معيشتهم ويعرف أنه يستطيع حتى اختراق سياراتهم والتحكم بها، هو الوحيد القادر على فعل ذلك. ثمة ضباط آخرون فى مكان بعيدمن العالم يعرفون ماذا يفعلون أيضا. المشكلة أنه وفقا للقانون الأمريكى من المسموح لأجهزة الأمن التجسس على الجميع، باستثناء الأمريكيين. طريق الولاياتالمتحدة لتفادى هذه المعضلة هو عمليات التبادل الأمنى مع الحلفاء الخارجيين، كالاستخبارات الخارجية البريطانية (MI6) مثلا. إذا سُمح للبريطانيين بالتجسس على الأمريكيين، وتمرير المعلومات التى يحصلون عليها مرة أخرى لسى أى ايه، يكون موقف الوكالة سليما تماما من الناحية القانونية. الجميع يشتغل وفق هذه الحيلة القديمة، حتى فى المنطقة العربية. لكن صعود تنظيم داعش واحتلاله جزء كبيرا من مواقع التواصل الاجتماعى وفضاء التطبيقات على الهواتف الذكية غير المعادلة. اليوم الأمريكيون والبريطانيون والروس والمصريون وغيرهم يريدون مراقبة كل ما يحصل داخل هذه التطبيقات التى لا يجد الإرهابيون أى سور عال يمكن الاختباء خلفه سواها. الغرب والشرق سيكون أمام ضرورة تغيير قوانين التجسس والرقابة والخصوصية لا محالة. هجوم لندن الشهر الماضى هو تعزيز للنقاش باتجاه خصم المزيد من مساحة الحريات التى باتت ضئيلة أصلا. صعود اليمين الشعبوى فى الغرب ليس سوى قضاء حتمى على ما تبقى منها. ليس ثمة طريق واضح لتسوية الصراع بين أبل وجوجل وواتساب من جهة، وأجهزة الاستخبارات من جهة أخرى. معركة الالتفاف ومحاولة كل طرف تقويض قدرات الطرف الآخر ستظل على أشدها لسنوات. حسم الصراع لن يتم سوى بالتعاون بين الجانبين. لن يكون أمام شركات التكنولوجيا سوى الإبلاغ عن أى رسائل يشتبه بصلتها بالإرهابيين، ولن يكون أمام وكالات الاستخبارات سوى ابلاغ شركات التكنولوجيا عن أى ثغرات قد تشكل جسرا لتجسس أجهزة الاستخبارات المعادية على هذه الشركات، وعلى الغرب بأسره. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح