بعد مرور ثلاثة أشهر على ولايته أخذت السياسة الخارجية الأمريكية لإدارة الرئيس ترامب فى التبلور بشكل مختلف عن ملامح السياسة التى أعلنها خلال حملته الانتخابية التى قامت على فلسفة أمريكا أولا وعقيدة الصفقة فى إدارة تفاعلات تلك السياسة فى علاقته مع الحفاء أو فى تدخلاته فى الأزمات والصراعات الدولية والحصول على المقابل المادى مقابل الحماية, لتغلب عليها منطق الواقعية السياسية التى تجلت فى كثير من الملفات والقضايا. فعلاقاته مع روسيا اتجهت من الرغبة فى التقارب وإعجابه بالرئيس بوتين والتوجه لرفع العقوبات إلى التدهور لأدنى مراحلها بعد الضربة الأمريكية على سوريا عقب استخدام السلاح الكيماوى فى خان شيخون ورفض روسيا لتلك الضربة, إضافة إلى التأثير السلبى لقضية التدخل الروسى فى الانتخابات الامريكية والاتهامات بوجود علاقات بين أعضاء فريق ترامب وموسكو, أدت لاستقالة مستشار الأمن القومى السابق مايكل فيلين, كما نجحت المؤسسات الأمريكية فى وقف اندفاع ترامب نحو التقارب مع روسيا لتظل هى الخصم الإستراتيجى للولايات المتحدة فى النظام الدولى. كما تغيرت توجهات ترامب نحو الصين من العداء واتهام بكين بسحب الاستثمارات الأمريكية والتلاعب فى عملتها مما زاد من العجز التجارى بين البلدين, إلى التقارب والتعاون خاصة عقب زيارة الرئيس الصينى شى جين بينج للبيت الأبيض والتنسيق فيما بينها حول الأمن فى شرق آسيا واحتواء خطر كوريا الشمالية وهو ما انعكس فى ممارسة الصين ضغوطا على نظام بيونج يونج, الحليف القوى لها, لوقف تجاربها الصاروخية والنووية ووقف استيراد الفحم منها. كذلك تبدلت توجهات ترامب نحو حلف الناتو من وصفه بالعتيق والمطالبة بتفكيكه ومطالبته الدول الاخرى الأعضاء بزيادة حصتها التمويلية, إلى الإشادة به وبدوره فى مواجهة الإرهاب وطمأنته الحلفاء الأوروبيين على دور الولاياتالمتحدة فى الدفاع عن أمن القارة ضد التهديدات الروسية والتحديات الخارجية. ولعل موقف ترامب من الأزمة السورية يعد أحد أبرز ملامح التغيير والواقعية حيث تراجع عن موقفه من نظام الأسد وعدم المطالبة بإسقاطه فى مقابل التركيز على خطر تنظيم داعش الإرهابى, إلى موقف مغاير أكثر تشددا واعتبار أنه لا مستقبل للأسد فى سوريا ووصفه بالجزار بعد استخدام السلاح الكيماوى وقيام الولاياتالمتحدة بشن ضربة عسكرية على مطار الشعيرات, كما تجاوز الموقف الأمريكى فكرة فرض مناطق آمنة والتنسيق مع روسيا لمحاربة داعش إلى أن تصبح أمريكا لاعبا أساسيا فى المعادلة السورية عسكريا وسياسيا إلى جانب روسيا التى كانت اللاعب الاساسى خلال السنوات السابقة سواء عبر مفاوضات الآستانة لوقف إطلاق النار أو مفاوضات جنيف للتوصل إلى حل سياسى. هناك عاملان أديا لغلبة الواقعية السياسية على توجهات ترامب فى إدارة السياسة الخارجية: أولها: هيمنة الفكر المحافظ الذى يمثله أعضاء فريق ترامب فى السياسة الخارجية خاصة وزير الدفاع جيمس ماتيس ووزير الخارجية تيلرسون ومستشار الأمن القومى ماكمستر وكبير الإستراتيجيين ستيف بانون, فمع افتقاد ترامب الخلفية السياسية كرجل أعمال, برز دور هؤلاء بشكل كبير فى تحديد توجهات السياسية الخارجية ونزوعها إلى التدخل العسكرى وهو امتداد لفكر الجمهوريين والمحافظين الجدد الذين يميلون دائما إلى استخدام القوة الصلبة مثل التدخل العسكرى والعقوبات, كما حدث فى عهد بوش الأب إبان حرب الخليج الثانية, وفى عهد بوش الابن إبان الحرب على أفغانستان والعراق, على عكس الديمقراطيين الذين يميلون إلى القوة الناعمة مثل الدبلوماسية والمساعدات, كما أن تشابكات المصالح الأمريكية فى الخارج وموقعها كقوة عظمى تقف على رأس هرم النظام الدولى دفعت ترامب إلى التخلى عن سياسة العزلة التى أعلنها كمرشح إلى التدخل والانخراط بفاعلية فى القضايا العالمية, مما يؤكد أن المؤسسات استطاعت ترويض ترامب وتقليل تأثيراته وقناعاته الشخصية على إدارة السياسة الخارجية. ثانيا: إخفاق ترامب فى تنفيذ وعوده الانتخابية الداخلية خاصة فيما يتعلق بمنع دخول اللاجئين والمهاجرين بعد تجميد القضاء لقراراته بحظر دخول رعايا سبع دول إسلامية إلى الولاياتالمتحدة, والفشل فى إلغاء مشروع الرعاية الصحية المعروف بأوباما كير, وعدم وجود تمويل لبناء جدار على الحدود مع المكسيك, أدت إلى تراجع شعبيته إلى أدنى حد لرئيس أمريكى, مما دفعه إلى تحقيق بعض الإنجازات على صعيد السياسة الخارجية, كما حدث فى الضربة على سوريا وموقفه المتشدد من كوريا الشمالية, أسهمت نسبيا فى صعود شعبيته مرة أخرى. ورغم غلبة الواقعية السياسة لإدارة ترامب فإنه فى ظل التضارب فى التصريحات بين أعضاء فريقه لا توجد حتى الآن سياسة خارجية واضحة ومتماسكة وذات رؤية محددة حول الدور الأمريكى فى الخارج وكيفية التعامل مع الأزمات والصراعات الدولية, خاصة فى الشرق الأوسط سواء تجاه الأزمة السورية أو الموقف من إيرانوكوريا الشمالية, أو سبل حل القضية الفلسطينية, وهو ما يعنى أننا إزاء سياسة أمريكية ضبابية مرتبكة تمزج بين الانعزال والتدخل ولا تعتمد على المبادرة وإنما على ردود الأفعال وفقا للمتغيرات على الأرض. لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد