«لم يكن غريبا أن ترى رجلا غريبا» ففي الإسكندرية كانت تتلاطم كتل البشر القادمين من كل أطراف البرية، تماما كما تتلاطم الأمواج القادمة من البحر. فلم يلفت انتباه أحد أن ذلك الرجل ذا الملابس الغريبة الذي يسير في شوارع حاضرة البحر، أنه منذ قليل انقطع سير حذائه وهوذا يمشى حافي القدمين في الطرقات. كان حمل سفره خفيفا يدل على أنه ليس من التجار أو أصحاب الصناعات الذين تموج بهم أسواق عروس البحر، لكن ما كان أثقل حمول صدره، فهو مكلف بأجل وأخطر ما يمكن تكليف إنسان به، في أي لحظة يمكن أن يلقى به في غياهب السجون ولا يخرج منه إلا أن يلقى للوحوش في الاحتفالات الموسمية ولو تمكن من إخفاء سره عن رجال الشرطة، فأنى له أن يخبئ هذا السر عن الناس وهو مأمور بأن ينشر بينهم رسالته التى حملها باسم «المسيح سلام الله عليه» - فهؤلاء الناس قد يكونون أشد نكالا عليه من وحوش الإمبراطور - وهو ما صدقته الأحداث فيما بعد- ولكنه لابد أن ينفذ أي كانت النتيجة. .....................................................................كانت الإسكندرية حينئذ مازالت تحتفظ بمكانتها العلمية والثقافية والدينية أما مكانتها الثقافية فقد فقدته منذ أن سيطرت عليها جيوش روما عندما دخلت الإسكندرية ظافرة بعد يوم أكتيوم الحزين في عام 31 قبل الميلاد، أي أنه مضى عليه الآن تسعون عاما تسيدت فيها روما الأرض بلا منازع، لكن مهما بدا من روما فمازالت الإسكندرية عروس البحر ومهما بدا من محاولات قياصرة روما إذلال مصر، فهم يأتون لها خاضعين وهاهم أباطرتها الذين سخروا من آلهتها قد جاءوا إليها مذعنين يقدمون القرابين لمعابدها ويحضرون احتفالاتها الصاخبة!. لا عليك يا مرقس، فلابد أن تجد في هذا البلد العظيم من يسمع دعوتك، فقبل 60 عاما من هذا التاريخ، جاء يحتمى بأهلها الطفل وأمه وهو الذي صار المسيح وها أنت الآن صرت تكرز باسمه أنت الآن في قصبة هذه البلاد التى احتضنت الطفل المبارك وأمه البتول مع الرجل الصالح يوسف النجار، حتى بلغوا مأمنهم ليعودا وقد تركوا في كل موضع حلوا فيه، بركة وسلاما إلى ابد الآبدين. وجلس مرقس أمام الإسكافي الذي سيصلح له حذاءه، كان يحمل ملامح أهل هذا البلد الذين يضربون بجذورهم في عمق التاريخ لم يكسرهم غاز أو محتل، ظلوا متشبثين بجذورهم في الأرض. وكان هذا الإسكافي يعمل بجد ونشاط، حتى أنه من فرط دقته في إصلاح حذاء هذا الغريب، أصاب يده بمخرز الخياطة فآلمته ولكنه صرخ مع تدفق الدم بما أذهل الغريب عندما قال الإسكافي: «الله واحد». إنه النداء نفسه الذي لايزال البسطاء من أهل مصر - حتى الآن – فترى الرجل منهم يستغيث بالله إذا فاجأه ما يؤلمه قائلا: «يا واحد». ما اسمك يارجل أنا المدعو حنانيا «إنيانوس» كيف عرفت أن الله واحد؟! وكان وراء هذه الكلمة عقيدة راسخة امتدت لآلاف السنين على أرض وادي النيل وورثها حنانيا ضمن من ورثوا عقيدة المصريين بمفاجآتها وأسرارها، فرغم ماتعج به الحياة الدينية من مظاهر وثنية صارمة، إلا أن دعوة الإله الواحد ظلت باقية في قلوب البسطاء وليس في ذلك الكهنوت الذي جثم على الحياة الروحية فصارت المعاني السامية أساطير وأنصابا يلبسها الكهنة ما يريدون من رضا أو سخط. وفي بيت حنانيا دشن مرقس الرسول أول كنيسة على أرض مصر، بل ورسم بيديه هذا البار ليصير أول أسقف بعده فصار حنانيا بما حفظ صدره ووعى عقله ونطق لسانه. ومع حنانيا كان هناك ثلاثة رسمهم مرقس الرسول كقساوسة ثم مكث معهم قليلا وتركهم في الإسكندرية ليحمل حنانيا أو إنيانوس - حسب النطق اليوناني- مسئولية أحد أكبر وأقدم الكراسي الرسولية التى أسست بعد المسيح لنشر رسالته في أرجاء المسكونة. واختار مرقس من الإسكندرية موضعا يسمى بوكاليا أو مرعى البقر.. وهي جزء من بقعة على ساحل البحر المتوسط ، اسمها الإسكندرية، كتب عليها التاريخ - أو قل كتبت هي على التاريخ- أن تكون واحدة من أكبر مراكز الاشعاع الثقافي والفلسفي والعلمي والديني، منذ أن اختار القائد العظيم الإسكندر الأكبر محلة الصيادين الصغيرة التى تدعى راقودة أو «راكوتيس» ليبني عليها مدينته التى صارت عاصمة العالم لما ناف عن ثلاثة قرون حتى لما غربت شمسها كعاصمة العالم بقيت عاصمة العلم والدين، فكما أسس كنيسة فيها ورسم لها حنانيا كأول أسقف، اسس كذلك أول مدرسة دينية مسيحية في العالم ووضع على رأسها أول ناظر لها «يسطس» الذي تعمد على يد مرقس الرسول ورسمه حنانيا قسيسا ثم انتقل من المدرسة بعد ذلك إلى الكنيسة، ليكون سادس الجالسين على كرسي القديس مرقس. وكان الاضطهاد هو الحل الوحيد الذي تلجأ إليه السلطات الرومانية التى لم تكن لتسمح بزعزعة عقائدها، فما الوثنية المعتمدة في الديانات والعقائد المنتشرة إلا من وضع سحرة وكهان يبثون في الناس ان هذه هي أوامر الآلهة وما هي إلا أوامرهم هم وتعبيرا عن سلطة غاشمة يهييء لها هؤلاء الكهنة صدر الناس تتقبلها، مستغلين العطش الغريزي للإنسان نحو أن يأتيه من السماء مالا يضل به ولا يشقى، فاختلقوا آلهة من طين وحجارة الأرض وزعموا أنها تسكنها آلهة السماء ولم يكن تعدد الآلهة إلا لتعدد الأهواء لإرضاء كل يريد أن يفرض أمرا بهواه، فيجعل الكهنة له إلها خاصا بهذا الهوى. ثم إن الإمبراطور نفسه قد فرض عبادته على مواطني الدولة الرومانية ورضي بأي آلهة بجواره في مقابل هو شخصيا، بل لا تكتمل المواطنة الرومانية إلا بعبادة الإمبراطور. إذن فلابد من الصدام مع تلاميذ السيد المسيح، فكيف يتقبل الرومان وهم سادة العالم أن يذعنوا لأحد رعاياهم، فقتل رسل الميج تباعا بولس وبطرس. وها هي نهاية مرقس تقع على الأرض التى كرز فيها، لكن القتل لم يكن على يد رجال قيصر، بل على يد الدهماء الذين بطلت عقولهم عن التفكير وقست قلوبهم، فلما وجدوا كاروز الديار المصرية يعود إلى تلامذته، ليتابع غرس يده ويرسخ قواعد دعوته، فتربصوا له وأمسكوا به وربطوه بحبل من عنقه وداروا به في الشوارع حتى سقط وظلوا يسحلون جسده حتى فارق الحياة في واحدة من أبشع صور القتل والاضطهاد التى وقعت لآباء الكنيسة المصرية. ومنذ استشهاد مرقس الرسول كاروز الديار المصرية على أرض مصر، عانى فيها المصريون الويلات بعد أن تحدوا أباطرة الرومان واتبعوا دين المسيح عيسى بن مريم، فلاقوا العنت حتى صار تقديم المؤمنين بالمسيح إلى الوحوش ليفترسوهم في حفلات صاخبة مفتوحة للجماهير، من مظاهر الاحتفالات ويحرص على إقامتها حكام مصر الرومان في المواسم والأعياد الوثنية، حتى بلغت ذروة الاضطهاد في عهد الإمبراطور دقلديانوس الشهير الذي بلغ من دمويته أن كان حكمه علامة حزن اقترنت بالتقويم القبطي الذي بدأ حسابه تراكميا منذ عام 284ميلادية حيث بلغت أكبرو أعلى درجات الدموية في مذابح دموية جماعية في طول مصر وعرضها غاصت فيها الخيل الرومانية إلى ركبها. وكان البطريرك بطرس الأول هو نهاية هذا العد الدموي، فقد جابه هذا القديس الكثير من المتاعب داخل وخارج الكنيسة، فتراه يتصدى لبدعة متطرفة جاءت من الجنوب، لا تعرف الرحمة بالتائبين من أحد رجال الكنيسة في أسيوط رفض توبة العائدين إلى حضن كنيستهم ممن أرغمهم الرومان على إعلان ردتهم عن الإيمان والعودة لعبادة الأوثان تحت سياط القهر ومصادرة الأموال والأملاك. فقبلهم بطرس بشروط معينة بغية التأكد من صدق عودتهم لإيمانهم ووضعهم تحت الاختبار حسب حجم كل فعل منسوب إليهم وهو الأمر الذي رفضه المدعو «ميلتس» أسقف أسيوط الذي ظل هو ومن شايعوه مصدر متاعب حتى لمن جاء بعد بطرس لآماد طويلة. والبدعة الأخرى جاءت من الشمال ومن عقر دار مهد الكنيسة في الإسكندرية نفسها، عندما أثار القس «أريوس» جدلا واسعا مزلزلا أدى في نهايته إلى تصدع وحدة الكنيسة المسيحية فيما بعد. ومع هذين كان الرومان يتربصون ببطرس ويتحينون الفرص لعقابه، لأنه على عهد من سبقوه، لا يرضخ للإمبراطور دقلديانوس ولا شريكه مكسيميانوس، وكان يغيظهم التفاف الناس حوله حتى صار خوف الجموع هو المانع الوحيد من قتله، وبعد خطوب كثيرة كان القرار المفجع بالقبض على البطريرك السكندري وقتله في قصة مؤلمة ولكن لم يكن قتله نهاية لآلامه التى لقيها في السجن بل كانت نهاية عهد بغيض، فقد دعا البطريرك أن يكون هو آخر من يتم قتله على يد الرومان وبالفعل كانت سنة 311 ميلادية هي السنة الأخيرة في موجة الاضطهاد العظيم التى شهدتها مصر خلال عصر دقلديانوس الذي عرف بعصر الشهداء وكان بطرس الأول بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية هو خاتم الشهداء. وكان مرقس المؤسس وبطرس الأول هما البطريركان الوحيدان اللذان سالت دماؤهما في نهاية مأساوية في ملحمة الاضطهاد في تاريخ الكنيسة القبطية، فصارا على رأس قائمة شهداء الإسكندرية التى ارتبط باسمها الكرسي الباباوي حتى بعد أن انتقل منها إلى القاهرة في القرن الحادي عشر الميلادي لكن بقي «كاثدرا» أي الكرسي مرتبطا بها حتى هذا الحين.