«فى الهدوء نعيم، وفى الصمت حياة، وما بين الاثنين تفاصيل لا أحد يدركها»، هذه المقولة التى أطلقها الشاعر الكبير محمود درويش تنطبق تماما على حياة الرائد الكبير المخرج والمنتج والسيناريست عادل صادق، الذى رحل منذ أيام قليلة فى صمت لا يتناسب مع ما قدمه للفن من أعمال سينمائية وتليفزيونية ومسرحية مهمة،أهلته ليكون رمزا من رموز الفن الجميل، وأحد أعمدة الصناعة الفنية فى فترة من الفترات، فقد قدم أكثر من مائة عمل تليفزيوني، وحوالى عشرة أفلام سينمائية، غير عشرين مسرحية كوميدية، وليس هذا فحسب، بل أسس شركة إنتاج، قدم من خلالها أكثر من 30 عملا فنيا فى السينما والمسرح والدراما التليفزيونية، كما أنه واحد من أكثر المخرجين الذين قدموا أعمالا فنية بلهجات مختلفة للعديد من الدول العربية، لتبقى أعمالا الناجحة محفورة فى أذهان الجمهور المصرى والعربي. ............................................................................... كان الراحل صديقا شخصيا لمجموعة من كبار رموزنا الفنية والأدبية مثل الموسيقار محمد عبدالوهاب، والكاتب والأديب ثروت أباظة، والدكتور مصطفى محمود، والعملاق محمد عبدالقادر المازني، وغيرهم، وكان من أوئل من آمنوا بموهبة النجم الكبير عادل إمام وقدمه فى مجموعة من الأعمال السينمائية والتليفزيونية، وأول ما قدم الطفلة «بوسي» لزملائه المخرجين فى السينما، وهو أيضا أول من قدم المطرب عمرو دياب كممثل، وكذلك مدحت صالح، ومحمد ثروت، ومحمد الحلو، ومنح سمير سيف وأشرف فهمى ومحسن زايد فرصا كبيرة لتقديم موهبتهم فى مشاريع تليفزيونية قبل أن يشقوا طريقهم إلى السينما. الغريب أن قليلا من الصحف المصرية هى التى كتبت عن رحيله سطورا قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة، ومن المفارقات المذهلة أنها نعته على انه والد الفنانة وفاء صادق فقط، وكأنه لا يمت للفن بصلة على غزارة تجاربه!، واكتفت بأنه فقط والد الفنانة الموهوبة!!!. خوف أنور وجدى من القتل نشأ عادل صادق فى بيت أرستقراطى لأب ثري، وتميزت طفولته بالشقاوة الشديدة، وعشق الفن، فكان دائم التردد على دور العرض لمشاهدة أحدث الأفلام المصرية والأجنبية، وعندما يرجع إلى منزله يقلد ما شاهده أمام المرآة، وبعد حصوله على «التوجيهية»، قرر أن يحقق أحلامه، ويتجه إلى التمثيل، فذهب فى بداية الخمسينيات إلى قريبهم النجم ذائع الصيت أنور وجدي، وطلب منه العمل معه فى أفلامه، لكن النجم الكبير خشى على الشاب الصغير من غضب والده، وقال له : « أنت عايز أبوك يقتلنى يا عادل لو عرف أنى شغلتك معايا .. روح يا حبيبى كمل دراستك»!. الدراسة فى الجامعة الأمريكية رجع الشاب «عادل» إلى منزله وهو حزين، لكن روحه الوثابة للحرية والعناد جعلته يطلب من والده السفر للخارج لدراسة السينما لعدم وجود معاهد متخصصة فى مصر، لكن الأب قابل طلبه بالرفض التام، ومنعه من التفكير فى هذا الأمر، وقدم أوراقه إلى الجامعة الأمريكية لدراسة الطب، لكن دراسة الطب لم تستهو عادل، فسحب أوراقه والتحق بكلية الحقوق، لكنه أهمل الدراسة، واتجه للتمثيل فى فريق الجامعة الأمريكية مع زميلتيه لبنى عبدالعزيز وليلى رستم، وعندما علم والده بممارسته للتمثيل ثار عليه، مما جعل عادل يتوقف عن الذهاب للجامعة لمدة عام وجلس فى البيت. محمد كريم يسخر منه حاول والده أن يثنيه عن تفكيره فى الفن، وعندما يأس من إصلاحه، وبعد تدخل أنور وجدى الذى طمأنه على مستقبل الفن بعد جلوس مجموعة من الفنانين مع الرئيس محمد نجيب، وافق على سفر ابنه للخارج لدراسة الإخراج فى جامعة جنوب كاليفورنيا بالولايات المتحدةالأمريكية، وأثناء دراسته فى الجامعة علم أن التليفزيون فى طريقة إلى مصر، فدرس أيضا فن التليفزيون، وبالفعل حصل على بكالوريوس فى الإخراج السينمائى والتليفزيونى عام 1959 ، وعاد إلى بلاده، وأثناء دراسته فى الخارج، كان معهد السينما فى مصر قد أنشأ، وعندما عاد ذهب لمقابلة عميد المعهد المخرج الكبير محمد كريم، وطلب منه العمل كمعيد فى المعهد، فقال له المخرج الكبير بعد أن أطلع على شهادته : « خد يا ابنى الشهادة دى وأقعد فى بيتكم اتفرج عليها، لا يوجد عندى عمل لك»!. لبنى عبدالعزيز تمنحه قبلة الحياة بعد عدة شهور قضاها بلا عمل، قابل بالمصادفة زميلته لبنى عبدالعزيز التى أصبحت نجمة سينمائية، وعلم منها انها تزوجت من المنتج الشهير رمسيس نجيب، وعلمت منه انه عاطل عن العمل بعد عودته من أمريكا، فتوسطت له للعمل مع زوجها رمسيس نجيب، الذى كان يستعد لإخراج فيلم « بهية «، لكن رمسيس أكد له أنه لا يوجد لديه أى عمل يناسب مؤهله، إلا عمل بسيط كعامل كلاكيت! فوافق عادل!، حتى يقترب ويتعرف على « جو العمل الفني» بدلا من الجلوس فى البيت. وخلال فترة العمل أثبت مهارته وشطارته، واستطاع اكتساب حب وثقة رمسيس نجيب وكل أبطال الفيلم « لبنى عبدالعزيز، ورشدى أباظة، وحسين رياض، وذكى طليمات»، وخلال فترة بسيطة تحول من عامل كلاكيت إلى مساعد المخرج، حتى أن منتج ومخرج الفيلم رمسيس نجيب أصر على أن يكتب إسمه فى « تتر الفيلم» فى لوحه منفصلة بمفرده كمساعد مخرج. عبدالقادر حاتم يبحث عنه فى عام 1960 تم افتتاح التليفزيون المصري، وأثناء عمله مع رمسيس نجيب فى فيلم « وا إسلاماه «، حيث قام بترجمة حوار الفيلم الذى كتبه الأديب يوسف السباعى للمخرج « أندرو مارتون»، طلب منه رمسيس أن يذهب معه للتليفزيون لبيع بعض الأفلام التى أنتجها، وأثناء حديث حسن حلمى رئيس التليفزيون مع رمسيس، سأله عن الشاب الذى يصطحبه فقال له بهدوء شديد: «هذا مساعدى فى الإخراج عادل صادق»، وهنا انتفض حلمى وقال للشاب: أنت «عادل صادق»؟!، فدهش الشاب ورد بالإيجاب، فأمسك حلمى التليفون وطلب عبدالقادر حاتم وزير الثقافة والإرشاد العام، وقال له : « وجدنا يا أفندم أخيرا عادل صادق»!، كل هذا وسط دهشة رمسيس نجيب، الذى قال لصديقه ضاحكا : أيه الحكاية يا أبو على أنا جاى أبيع لكم بعض أفلامى مش أبيع الرجل بتاعي»! فرد حلمى قائلا : منذ فترة ونحن نبحث عنه، لأن سيادة الوزير علم أنه درس فن التليفزيون فى أمريكا، وأحب أن نستفيد من دراسته، لكننا لم نكن نعرف تليفونه ولا عنوانه. اكتشاف بوسي فى نفس اليوم قام الوزير حاتم بتعيين عادل صادق كمخرج فى التليفزيون، ورشحه الرائد الكبير عبدالحميد يونس لبرامج الأطفال، نظرا لصغر سنه، وأثناء عمله اكتشف الطفلة « بوسي»، التى كانت تعمل فى برامج الأطفال لأول مرة. ولهذا الاكتشاف قصة، حيث كان من المفروض أن تلعب بوسى مع زميلاتها وبصحبتها باقة ورد أعطوها لها فى التليفزيون، لكنها من شدة توترها وخوفها من مواجهة الكاميرا ، وأجواء الاستديو لأول مرة أفسدت باقة الورد، فجلست تبكى فى أحد أركان البلاتوه، وأعتقدت أن أحد لا يراها، وإنها لن تشارك فى البرنامج، لكن عادل صادق المثقف وجد فرصته فى الطفلة التى تبكي! حيث كان يرى أن الأطفال ليسوا كلهم سعداء، وأن من بين الأطفال الذين يشاهدون البرنامج فى البيوت أكيد يوجد أطفال يبكون، وإنه من الطبيعى أن يصور الدموع كما يصور ضحكات الأطفال، لهذا كان ينقل الكاميرا بين الأطفال السعداء وبين بوسى التى تبكي، وأعتقد الجميع أن ما يحدث فى البرنامج سيناريو متفق عليه، وأن الطفلة التى تبكى بحرارة موهوبة جدا، فنالت لقطات بوسى إعجاب الكثيريين، من هؤلاء المخرج « عبدالرحمن شريف» الذى كان يبحث عن طفلة موهوبة تشارك نادية لطفى وشكرى سرحان بطولة فيلمه « عودى يا أمي»، وبالفعل شاركت بوسى فى بطولة الفيلم، لهذا كانت بوسى تعتبر عادل صادق « وش السعد عليها»، وقامت ببطولة كثير من أعماله الفنية سواء فى السينما أو التليفزيون. فرص لأشرف فهمى وسمير سيف نظرا لإخلاصه وحبه للعمل التليفزيونى تنقل عادل صادق بين البرامج، فقام بإخراج العديد من البرامج منها « مجلة التليفزيون»، « من الجاني»، « تحت الأضواء»، وغيرها، واستطاع فى فترة بسيطة أن يحقق نجاحا كبيرا، وتولى العديد من المناصب القيادية فى التليفزيون، ووصل نجاحه لكثير من الدول العربية، فتم أعارته لدولة الكويت لمدة عام، وهناك قدم العديد من الأعمال الفنية سواء المسرحية أو التليفزيونية، وعاد لمصر عام 1964 ، وفى هذا الوقت طلب منه الدكتور عبدالقادر حاتم أن يتولى مسئولية أفلام التليفزيون، وكان من الطبيعى بحكم وجوده فى الوسط الفنى أن يضع يده على مجموعة من زملائه الموهوبين ويقدمهم فى مشاريع سينمائية للعرض التليفزيوني، مدة الفيلم نصف ساعة، فقدم أشرف فهمي، وسمير سيف، وسعيد مرزوق، ومحسن زايد، وسمير فرج، وأعطاهم أول فرص للعمل. القط الأسود بعد عمله فى كل برامج المنوعات، أحب أن يتجه لإخراج المسلسلات، فكانت البداية من خلال عمل لصديقه الأديب محمد عبدالقادر المازني، الذى عرض عليه أن يقوم بتحويل مسلسله الإذاعى الشهير « القط الأسود» إلى مسلسل تليفزيوني، فرحب عادل صادق على الفور، رغم تخوف كثير من المحيطين به، لأن المسلسل حقق نجاحا كبيرا فى الإذاعة، والخوف ألا يحقق نفس النجاح، لكن عناد المخرج الشاب جعله يتحدى الجميع، ويقوم بإخراجه، وقام بإسناد بطولته لعمر الحريري، مديحة سالم، علوية جميل، واستيفان روستي، لكن روستى أصيب فى هذه الفترة بمرض الزهايمر، فاستبدلته بالفنان محمود المليجي. عرض المسلسل فحقق نجاحا كاسحا، ومازال من علامات التليفزيون المصرى حتى وقتنا الحاضر، ومازال يحقق النجاح فى كل مرة يعرض فيها، وتوالت أعماله التليزيونية التى تخطت المائة عمل منها «الشاطئ المهجور، صابحة، قلب من زجاج، المعبد، الرجل الثالث، ثم تشرق الشمس، الثأر قبل الحب أحيانا، أرزاق، وفاء، وبعد الظلام تشرق الشمس، رحلة عذاب، طارق من السماء، شيئ من الخوف، أغلال ناعمة، رجل على الحافة، للسعداء فقط وغيرها الكثير والكثير. بطولات عمرو دياب والحجار وثروت ومدحت يحسب لعادل صادق حبه وإيمانه بمجموعة من المطربين الشباب والوقوف بجوارهم وتقديمهم فى أول أعمالهم التمثيلية فى التليفزيون، من هؤلاء المطرب عمرو دياب الذى ذهب إلى مخرجنا الراحل فى منتصف الثمانينات أثناء إخراجه لمسلسل «المكتوب على الجبين» وقال له: «أتمنى يا أستاذ عادل أن تؤمن بموهبتى وتعطينى الفرصة لأغنى «تتر» مسلسلك الجديد « المكتوب على الجبين» الذى تقوم بإخراجه، وسأقوم بغنائه مجانا، وليس هذا فقط سأتكفل بإنتاج « التتر» على حسابى الخاص»، فوافق عادل، وغنى عمرو بالفعل « التتر» الذى حقق نجاحا للمطرب الشاب، لهذا قام بطرحه ضمن أغنيات ألبومه الجديد يومها، وتوطدت العلاقة بين الاثنين فقدمه عادل بعد ذلك فى مسلسلى « للآسف لا يوجد حل» و» ينابيع النهر». وآمن بموهبة إيمان الطوخى وأعطاها بطولة مسلسل « الخليل بن أحمد الفراهيدي» فى بداية مشوارها الفني، وبعد ذلك أعطاها بطولة مسلسل «صباح الورد»، كما قدم مدحت صالح لأول مرة فى مسلسلى « لؤلؤ وأصداف» و « المهر»، ومحمد ثروت فى مسلسلى «الغفران» عن قصة سيدنا يوسف عليه السلام، و» الطاووس» أول بطولة لابنته وفاء صادق، وعلى الحجار فى مسلسل « اللاعب والدمية»، ، ومحمد الحلو فى « الآنسة كاف»، و» وجيدة وسامح» مع منى عبدالغني. صانع نجومية عادل إمام كان الراحل من المؤمنين بموهبة عادل إمام جدا، لهذا قدمه وهو فى بداية مشواره الفنى كأحد أبطال فيلمه « شباب فى العاصفة» عام 1971 فى دور إنسانى جميل بعيد عن الأدوار الكوميدية التى لعبها من قبل، وشاركته البطولة النجمة الجميلة نيللي، نور الشريف، يوسف شعبان، سهير رمزي، بوسي، محمود المليجي، توفيق الدقن، ونظرا لجرأة هذا الفيلم فى طرحه لموضوع حرية الشباب تم منعه من العرض بأمر من مجلس الشعب، ثم أعيد عرضه بعد ذلك. بعد هذا الفيلم قدمه كبطل مطلق فى مسلسل « كيف تخسر مليون جنية» الذى يعتبر أول وآخر مسلسل يجمع هذا العدد من نجوم الكوميديا المصرية مثل، سمير غانم، محمد صبحي، محمد نجم، محمد رضا، هالة فاخر، فضلا عن نبيلة عبيد ويوسف وهبي، وزوزو ماضي، وكان آخر الأعمال التى جمعت بين الأثنين فيلم « زوج تحت الطلب» بطولة ليلى علوي، فؤاد المهندس. تحويل الأعمال الأدبية كان الراحل على درجة كبيرة من الثقافة ومن عشاق الأدب لهذا قام بتحويل عدد كبير من الأعمال الأدبية لكبار الكتاب مثل « توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، ثروت أباظة، مصطفى محمود، محمد عبدالقادر المازني، إحسان عبدالقدوس» إلى مسلسلات، حتى لو كانت هذه الأعمال تم تحويلها إلى أفلام سينمائية من قبل، حيث كان يؤمن أن لكل مجال عشاقه، ولكل وسيلة من وسائل الفن طريقتها فى معالجة العمل الأدبي، فمثلا قام بتحويل رواية « مدام أكس» التى قامت ببطولتها الفنانة شادية وزهرة العلا وكمال الشناوى فى فيلم « المرأة المجهولة» إلى مسلسل درامى ناجح جدا بعنوان « رحلة عذاب» بطولة نسرين وإلهام شاهين وصلاح ذوالفقار وأحمد خليل، وكان من أوائل مسلسلات إلهام شاهين فى الدراما التليفزيونية، كما قام بتحويل رواية « يوميات نائب فى الأرياف» إلى مسلسل بعنوان « المكتوب على الجبين»، ورواية « شيئ من الخوف» إلى مسلسل، وغيرها من الأعمال التى كانت تتعرض للظلم بسبب مقارنتها بالفيلم، وليس بالراوية. عش المجانين لم يقتصر عمل عادل صادق على مجال فنى واحد، ولكنه مارس كل أنواع الإخراج والإنتاج فى كل المجالات الفنية، من هذه المجالات المسرح حيث قدم العديد من الأعمال المسرحية منها « عش المجانين، أعقل يا مجنون، أنا أجدع منه» لمحمد نجم، ولسمير غانم وجورج سيدهم «منطقة ممنوعة»،ولأمين الهنيدى ونبيلة السيد وليلى علوى «الدنيا مقلوبة»، ولنوال أبوالفتوح وفاروق الفيشاوى وحسن حسنى « مسيلمة الكذاب»، ولأحمد آدم ومحمود الجندى وميمى جمال «وراك وراك»، وغيرها الكثير. وكان آخر أعماله التى قام بتأليفها المسلسل الخليجى « خطوات الشيطان»، إخراج حمد البدري، وبطولة مشارى البلام، محمد الصيرفي،عبير أحمد،غازى حسين، شهاب جوهر، مريم حسين. رحم الله الراحل المخرج الجميل عادل صادق الذى أخلص فى فنه ولم يبخل عليه بصحته ولا ماله.