انقضى ذلك الزمن الذى كانت الأنفاس تُحبس فيه قبل انعقاد القمم العربية ترقبا لما يمكن أن تفعله فى مواجهة تحديات وتهديدات خطيرة تتربص بالأمة العربية، وكان حبس الأنفاس هذا يعنى أن الأمل موجود فى أن تُفلح القمة فى وضع آليات المواجهة وتحدى الخطر. هكذا فعلت قمم سابقة فى مواجهة مخاطر داهمة، لكن النصال تكسرت على النصال وبالذات منذ الغزو الأمريكى للعراق وما عُرف بالربيع العربي، بحيث أصبحنا نتعايش مع التدخل الخارجى الفادح فى شئوننا والصراعات الدموية على أرضنا والانتشار غير المسبوق للارهاب، وكأن ذلك من مسلمات حياتنا، وهكذا تراجعت صدقية القمة تدريجيا، بل لقد تولدت خشية حقيقية على مصير القمة العربية بعد اعتذار المغرب عن عدم عقدها العام الماضى وحضور ما يصل بالكاد إلى ثلث القادة العرب قمة نواكشوط البديلة، غير أن الأمل تجدد مع الدبلوماسية التوافقية النشيطة المعهودة فى الأردن مضيف القمة هذا العام، وقد كان وتضاعف عدد الحاضرين من القادة، وإن بقيت سمات معينة تلقى بظلالها على القمة مثل انعقادها ليوم واحد مما يعنى أن ما سيدور فيها يكون أقرب إلى التعبير عن المواقف الفردية لقادة الدول منه إلى الحوار بينهم، مع أننا فى أشد الاحتياج إلى حوار القادة فى هذه الظروف حالكة الظلام. فإذا انتقلنا إلى حصيلة القمة نجد أنها حافظت بصفة عامة على تقليد التعبير عن المواقف المتعارف عليها إزاء القضايا العربية التى تحظى بتوافق عربى دون الانتقال إلى مستوى الأفعال، أو على الأقل بحث العراقيل التى تعترض تحويل المواقف إلى أفعال، وعلى سبيل المثال فقد جاء فى صدارة بيان القمة العمل على تعزيز العمل العربى المشترك، وعاد البيان فشدد على دعم الجامعة العربية لكننا نعلم أن الواقع يشير إلى أن الجامعة تتعرض لضغوط مباشرة أو غير مباشرة يُستخدم فيها سلاح المال مما يحتاج إزالة للتناقض بين القول والفعل، وفى القضية الفلسطينية حافظ البيان على صدارتها وتمسك بما انتهت إليه الثوابت العربية مثل حل الدولتين والقدس كعاصمة للدولة الفلسطينية المأمولة والمبادرة العربية كأساس للتسوية الشاملة للصراع، لكننا نعلم علم اليقين أن حل الدولتين تعترضه صعوبات جسيمة تكاد تجعله مستحيلا بسبب السياسة الإسرائيلية التى تغولت بالاستيطان فى الضفة الغربية حتى أصبح المتاح الوحيد فى ظل هذا التغول هو كانتونات فلسطينية لا يمكن واقعيا أن ترقى لمرتبة الدولة، ونعلم أيضا أن المبادرة العربية قد انقضت عليها ست عشرة سنة دون أن تُنفذ ومن قبلها سابقتها مبادرة فاس التى ظلت مطروحة عشرين سنة دون أن يُنفذ منها حرف فما العمل حتى تتحول الكلمات إلى أفعال؟. وقد أتى وقت هددت فيه القمة العربية بلطف بأن المبادرة »لن تبقى طويلا على الطاولة« لكنها بقيت ولم يعد حتى هذا التهديد اللطيف مطروحا، بل إن بعض المواقف اللفظية المطلوبة قد غاب كما فى تجاهل التعليق على إصرار نيتانياهو على أن الجولان لن تعود إلى سوريا، أو إغفال المطالبة برفع الحصار عن غزة وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، وهى مطالبات وردت فى بيان القمة السابقة . ولا يقف الأمر عند هذا الحد وإنما هو سمة عامة فى مواقف البيان أى التعبير عن توجهات سليمة دون العمل على تفعيلها على أرض الواقع، فقد أعرب البيان مثلاً عن التمسك بالحلول السياسية للصراعات العربية الضارية التى تدور الآن على الأرض العربية لكنه لم يتوقف عند المعضلات التى أوصلت إلى الانسداد التام حتى الآن لآفاق هذه الحلول، وهى معضلات معروفة لكن القمة لم تتصد لها لأن ذلك يفتح الباب بالتأكيد للكشف عن الخلافات العربية فى هذا الشأن فأيهما أفضل: أن ندارى خلافاتنا بصياغات عامة نعلم أنها تكرس الواقع البغيض الراهن أم ننفتح على حوار حقيقى يهدف إلى التوعية بمخاطر استمرار هذا الواقع على الجميع ويجهد لتوخى سبل الرشد فى إدارة الصراعات الراهنة تجنباً لمزيد من سفك الدماء وهدر الموارد فيما لا طائل وراءه بعد أن ثبت إخفاق سياسات التدخل والتصعيد؟. بل إنه حتى فى قضية مواجهة الإرهاب التى يُفترض ألا خلاف حولها والتى كان بيان القمة حاسماً بتأكيده تكريس جميع الإمكانيات للقضاء على العصابات الإرهابية، تأكدنا من كلمة أمير قطر أن ثمة خلافاً أصلا على مفهوم الإرهاب وتحديد ماهية الفصائل التى تنضوى تحت لوائه، وهو ما كان جديرا بالقمة أن تناقشه لأنه لا فاعلية لمواجهة الإرهاب فى ظل اختلافنا حول ماهيته، وثمة مثال آخر على معضلة الأقوال التى لا ترتبط بأفعال يظهر من إعراب بيان القمة عن القلق من ظاهرة الإسلاموفوبيا، وهو قلق مشروع لكن البيان لم يضف حرفا عن أى آلية لمواجهة الظاهرة، وبخصوص التدخل الخارجى الفادح فى شئوننا يُحسب للقمة أنها أدانته دون تمييز، لكن وضع هذا الموقف فى سياق الحديث عن تدخلات دول الجوار جعل البيان يبدو وكأنما سكت عن تدخل القوى الكبرى . يبقى أن بيان القمة قد تجاوز القول إلى الفعل فى أمرين هما تكليف المجلس الوزارى للجامعة بوضع آلية لمساعدة الدول العربية المستضيفة للاجئين، وتكليف المجلس الاقتصادى والاجتماعى بوضع خطة عمل لتنفيذ مقررات القمم السابقة التى تهدف إلى تطوير التعاون الاقتصادى العربي، وعلى الرغم من أن البعض قد يرى فى ذلك خطوات جزئية فإننى اعتبر التكليفين تحديا حقيقيا من شأن النجاح فيهما أن يبعث الأمل فى أن تكون لنا يوما القدرة على الفعل ومواجهة ما يعترضنا من تحديات جسيمة. لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد