انطفأت أنوار برج إيفل تضامنا مع ضحايا لندن.. لتعلن أن أوروبا لاتزال كيانا واحدا، متضامنة مع العالم كله ضد الإرهاب. ولكن فى ظل التغيرات المضطربة التى تعيشها أوروبا وحليفتها اللدود-حاليا- أمريكا هناك تساؤلات لازالت تفرض نفسها، مثل هل وصلت عدوى ترامب إلى أوروبا..أم أن الدفاعات الأوروبية لازالت أقوى من التأثير الترامبي؟ وهل سينجح التيار اليمينى فى السيطرة على القارة العجوز أم أنه لا يخرج عن كونه زوبعة فى الفنجان غالبا ما ستفشل فى التحول إلى عاصفة تغيير حقيقية؟.. هذه التساؤلات والتكهنات ظهرت وبشدة مع صدمة خروج بريطانيا المدوى من الاتحاد الأوروبى فى يوليو الماضي، ثم تصاعدت بشدة مع فوز الملياردير الجمهورى دونالد ترامب برئاسة الولاياتالمتحدة فى نوفمبر. وعادت لتشتعل من جديد مع سلسلة التفجيرات المروعة والمتقاربة التى اجتاحت فرنسا ثم بريطانيا خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية، بل إنها تحولت إلى مخاوف، خاصة وأن هذه الاعتداءات الإرهابية تزامنت مع موسم انتخابى ساخن فى فرنساوألمانيا، ليعطى زخما جديدا – غير مرغوب فيه- للفكر اليمينى المتطرف الذى يدعو للعزلة ورفض الآخر أيا كانت هويته. عندما صوت البريطانيون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبى تصاعدت المخاوف مما يصفه السياسيون ب»تأثير الدومينو» وأن تتساقط الدول الأوروبية الواحدة تلو الأخرى إلى أن ينهار الاتحاد الأوروبي، وبدأت التحذيرات من أن يكون مصير الكتلة الأوروبية مثل الاتحاد السوفيتى السابق. وعلى الرغم من استغلال التيار اليمينى فى أوروبا الفرصة للدعوة للخروج ، خاصة مع تصاعد الأزمات الاقتصادية وتفاقم أزمة المهاجرين والهجمات الإرهابية المتلاحقة التى عاشتها أوروبا على مدار العامين الماضيين. ولكن يبدو أن هذه الدعوات لم تجد صدى لدى المواطنين، خاصة بعد تراجع نايجل فراج الزعيم اليمينى البريطانى المتطرف عن مختلف وعوده التى تعهد بها قبل الاستفتاء ليؤكد أنه أسيء فهمه. ناهيك عن العواقب والاضطرابات الاقتصادية التى تواجهها بريطانيا حاليا، والتى تدفع حاليا ثمن قرارها غاليا. ولكن فى الواقع بريطانيا لم تكن يوما جزءا من نسيج الاتحاد الأوروبية، فقد رفضت الانضمام إلى العملة الأوروبية الموحدة كما لم تسمح يوما بضمها إلى تأشيرة الشينجن الموحدة للكتلة الأوروبيةز ولطالما استقبلت لندن فكرة انضمام دول أوروبا الشرقية، التى تعانى من متاعب اقتصادية جمة، بفتور شديد. ومسألة خروج المملكة المتحدة لا يعنى بالضرورة انتصار لليمين ولكنه قرار اقتصادى بالأساس، ورفض دفين للحياة تحت المظلة الأوروبية. ولم يخدم صعود ترامب إلى قمة السلطة فى الولاياتالمتحدة التيارات اليمينية الأوروبية، فحالة الاضطراب فى الشارع الأمريكى من مظاهرات وعنف تصاعدت بشكل غير مسبوق. كما أن ترامب نفسه يواجه اختراقات أمنية شبه اسبوعية للبيت الأبيض، مما يؤكد أن أمريكا تحت رئاسته لا تتمتع بالأمان الذى كانت تصبو إليه بل إنها غارقة فى صراعات جانبية بين ترامب وأجهزة المخابرات والقضاء ، ليدور فى حلقة مفرغة بدلا من التركيز على رفع مستوى معيشة الأمريكيين وبث الحياة فى الاقتصاد كما تعهد من قبل. وفى مواجهة نبرة ترامب العدائية تجاه أوروبا، ظهرت القارة العجوز أكثر تضامنا من أى وقت مضى سواء فى الدفاع عن حلف شمال الأطلنطى «الناتو» فى مواجهة انتقادات الإدارة الأمريكية الجديدة، أو فى مواجهة سياساته ضد المهاجرين والمسلمين والتى تتنافى بشكل عام مع المبادئ والفكر الأوروبيين، ناهيك عن انتقادات ترامب المستمرة واستقباله الفاتر للقيادات الأوروبية. وهو ما ينبئ بعلاقات أكثر فتورا فى المستقبل. أما الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، فقد لعب دورا مهما فى التأكيد على الوحدة الأوروبية خلال الأيام الماضية. فالموقف الموحد الذى اتخذته هولندا والنمسا وألمانيا ضد محاولاته للترويج لتعديلاته الدستورية الديكتاتورية على أراضيها. وهو ما أكد مجددا على وحدة الروح الأوروبية وقوتها. وتجلت هذه الروح فى الرفض الهولندى لليمين المتطرف خلال الانتخابات التشريعية، حيث ألحق الهولنديون هزيمة غير متوقعة بخيرت فيلدرز الزعيم اليمينى المتطرف. وهو ما قد ينعكس سلبا على أداء التيار اليمينى فى ألمانياوفرنسا اللذان يعيشان حاليا وسط أجواء انتخابية ساخنة، يسيطر عليها الذعر من موجة الاعتداءات الإرهابية التى تضرب الدول الأوروبية بصفة منتظمة حاليا. أما اعتداء لندن الأخير، فلم يكن سوى تأكيد جديد على أن الخطر الذى يجمع الدول الأوروبية، فاختيار بريطانيا الانسحاب من الكتلة الأوروبية لم يحمها من شبح الإرهاب الذى يخيم على القارة العجوز بأكملها. فتنظيم داعش الإرهابى وأفكاره الدامية والذئاب المنفردة هى خطر مشترك يستوجب تعاون أوروبى وتضامن فى مواجهة العدوأكثر من أى وقت مضى. فعلى الرغم من أنه من الصعب التنبؤ بنتائج الانتخابات الفرنسية أو الألمانية المرتقبتين، فى ظل فشل حكومتى لندن وبرلين فى التصدى لموجة الإرهاب المحلية والفشل الأمنى والسياسى فى كلا البلدين. إلا أن الأكيد أن التأثير الترامبى جاء بنتائج عكسية فى أوروبا، حيث أصبح دافعا للشعوب الأوروبية للتضامن بدلا من الانعزال. فبغض النظر عن الاختيارات التى ستحملها الانتخابات المقبلة، فإن التماسك والتضامن أصبح الحل الوحيد أمام الدول الأوروبية فى مواجهة عدوها المشترك والمضى قدما لانقاذ مستقبلها من الغموض الذى تواجهه أمريكا حاليا.