تجرى العمليات الاجتماعية باستمرار لإحداث تغيير اجتماعي، حسب شدة المثيرات الثقافية وتنوعها وانتشارها، ومع الانفتاح الإجبارى لمجتمعاتنا على العالم، نتعرض لطوفان من المثيرات الثقافية، من الأفكار والممارسات والنظم الجديدة، وبالتالى تزداد وتيرة العمليات الاجتماعية والثقافية التى تؤدى إلى التغير الاجتماعي. التاريخ ما هو إلا رصد لهذه العمليات الاجتماعية، التى أدت إلى تغيير المجتمعات، من حال إلى آخر، فالأنظمة الاقتصادية تنمو وتزدهر أو تتدهور، والثورات تأتى وتذهب إلى غير رجعة، والعلوم تتطور، وتنقلب النظريات العلمية رأسا على عقب، فتتغير فلسفات، وتهدم أفكار، وأشكال التعبير الفنى تتلون وتتقلب بين مذاهب جامدة أو تتمرد عليها، حتى القيم والأخلاق تتغير للأسوأ أو الأفضل، كل هذه العمليات الاجتماعية بين الأفراد تجرى باستمرار، ودائما ما يحكمها الثناء أو الهجاء، لضبط التغيير فى اتجاه معين، وحكمة التاريخ تكمن فى قراءته، لا للعودة إليه، لفهم عمليات التغيير الاجتماعى الإيجابى والسلبي، تحت وقع غواية الثناء، أو غوغائية الهجاء!. القبول الاجتماعى وما يجلبه من ثناء وتقدير من الآخرين، لا شك أنه من أهم الدوافع للإنجاز الفردي، للحصول على رضاء الدائرة الاجتماعية التى ينتمى لها الفرد، والعكس كذلك، وهو ما يتوقف على عملية التفاعل بين أفراد الجماعة، حسب مستوى تفكيرهم ومشاعرهم، وما يحدد نوعية إدراكهم للأمور، واتجاهاتهم، وتوقع نوعية ردود أفعالهم، وهو الأمر الذى يفسر ظاهرة التجمعات السكنية، التى يفضلها أفراد المجتمع، للارتباط بمن يتفقون معهم فى سلوكهم ونوعية إدراكهم، مما يسهل ارتباطهم ببعضهم بعضا. البناء الديمقراطى للمجتمعات يحسن إدراك أفراده للأمور، ويشركهم فى المسئولية، والبناء الديمقراطى لا يعنى الفوضى وإثارة الشائعات والأكاذيب، للتأثير على إدراك الناس، بالأوهام والتضليل، خاصة فى مجتمع يتسم بالأمية والفقر، ومن السهل التلاعب على آلامه، دون أفق أو رسم طريق للتخفيف منها، فالبناء الديمقراطى مثلما يسمح بحرية التعبير والأفكار، له من الضوابط المنطقية المضادة، التى تسحب البساط من تجار الشعارات والحلول الرومانسية، أو من محترفى الهجاء البذيء، ويدل ما يجرى فى مصر إنه ليس من السهل أبدا خلق أحداث ثورية، أو تغيير اتجاهات الناس بسهولة، بالشائعات وبث الفتن والأحقاد، وإلا كانت قناة الجزيرة قد نجحت مع ذيولها من القنوات الساقطة بتركيا، فى إشعال الأمور فى مصر، خاصة مع الإجراءات الاقتصادية القاسية! ذلك لزيادة إدراك الناس أننا فى أتون حرب ضروس مع الإرهاب وفكره وممويله، وإنهم لن يلدغوا من جحر براقش مرتين. البناء الديمقراطى لبلادنا، هو الطريق الآمن لتحويل التطور التكنولوجى العلمى كقوة مستقلة تمارس التأثير فى المجتمع، لإحداث التغيير الاجتماعي، نحو الأفضل، وبناء مجتمع تعاوني، يتيح الفرص للمنافسة والتعاون معا، كبداية لمجتمع مستقر، على دراية بالصراعات الداخلية، ويسعى للتعجيل بالاختراعات الثقافية أو باستعارتها، لتخفيض الصراع الاجتماعى لأدنى درجاته، مما يخلق رغبة فى الإنجاز والعطاء والتضحيات ليعيش الوطن، فى إطار البدائل المتاحة للسلام الاجتماعي.. فلم يعد فى إطار البناء الديمقراطى يحتاج المواطن إلى قصائد الهجاء للتنفيس عن قهره، بل إلى مفكرين لديهم تجديدات ثقافية تجعلهم قادرين على إدراك أعمق للواقع واتخاذ اتجاهات أكثر فاعلية، فالشعوب لم يعد يغرها الهجاء! ومن يتخذه وسيلة للمعارضة يستدعى ببساطة الشكوك حول من يدفع له أو اضطرابه النفسي. جدلية الثناء والهجاء تندرج تحت الفلسفة الإبيقورية التى تقر أن عاملى اللذة والألم هما ما يحكمان الإنسان بوجه عام، لكن مع زيادة الوعى بالأمور وحسن الإدراك، بعد تجارب مريرة عديدة ، والاطلاع على الاختراعات الثقافية للشعوب الأخري، أصبح هناك وعى بنوعية كل من الثناء والهجاء، ولابد أن يحمل كل منهما مضمونا حتى يقنع الناس، فحتى الغوانى المرأة الجميلة التى تستغنى عن الزينة لم يعد يغرهن الثناء، فالمرأة تعلم أن دورها فى الحياة لم يعد يقتصر على الجمال، وكذلك الشعوب التى كان يغرها الهجاء، والضحك على الدقون بالدقون، أو بكلامنجية تعمل من البحر طحينة، لم تعد تهتم إلا بأكل عيشها، ومن يكفله لها، وتنظر للمعارضة كطروحات علمية عقلانية بديلة، وليس كإثارة وتهييج للتسلية، فلم يعد الموقف يحتمل، فإذا كان الغراب دليل قوم سيهديهم إلى دار الخراب، فلم يعد الثناء يغر الغواني، ولا الهجاء يغر الشعوب، فحاجتنا الآن إلى «أبيقور» وتلاميذه لتذوق القليل من السعادة بفتح اختيارات وبدائل جديدة لأكل العيش، لشعوب انكوت بالعقل الشعرى فى الثناء والهجاء المزيفين!. لمزيد من مقالات وفاء محمود;