مثل كرة الثلج التى تكبر كلما تدحرجت على الأرض اتسعت الأزمة فى العلاقات التركية - الأوروبية بسرعة وتعمقت جذورها، بدأ الأمر مع ألمانيا وثنّى بهولندا ثم امتد إلى السويد والنمسا وسويسرا والدنمارك. كذلك تعمق الخلاف التركي- الهولندى واكتسب أبعادا جديدة، فبعد منع طائرة وزير الخارجية التركى من الهبوط فى مطار روتردام تم ترحيل وزيرة الاسرة التركية إلى الحدود الألمانية، وردت تركيا باعتبار السفير الهولندى شخصا غير مرغوب فيه. وبدت فرنسا وحدها كأنها تغرد خارج السرب الأوروبى عندما سمحت لوزير الخارجية التركى بأن يخطب فى تجمع للمهاجرين الأتراك، وعلى حين دفعت الدول الأوروبية التى رفضت الدعاية الرسمية التركية على أراضيها بأن مواقفها جاءت لحماية الأمن فإن فرنسا بررت سماحها بهذه الدعاية بكونها لا تخل بالنظام العام، وواقع الحال أن الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو. لم تألف الدبلوماسية الرسمية - فى حدود ما أعلم -ظاهرة طواف مسئولى الدولة على مواطنيها فى الخارج لحشدهم فى اتجاه سياسى أو فى آخر فعدد كبير من هؤلاء المواطنين اكتسبوا جنسيات الدول التى يقيمون فيها، وما من دولة تتعامل بأريحية مع ظاهرة الولاء المزدوج حتى وإن أصبحت أمرا واقعا بحكم جمع بعض مواطنيها بين جنسيتين، تستثنى من ذلك العلاقة بين إسرائيل ويهود العالم لأسباب ترتبط بجوهر الأيديولوچية الصهيونية فمعظم يهود العالم إسرائيليون أولا . عدا هذه الحالة الخاصة لإسرائيل فإن المعتاد أن يخص مسئولو الدول مواطنيهم فى الخارج بخطاب سياسى يدعوهم للمشاركة فى الاستحقاقات الانتخابية المختلفة من دون أن يرتبط ذلك بتوجيه أصواتهم فى اتجاه أو فى آخر ودون اقترانه بالطبع بتنظيم لقاءات مباشرة مع الناخبين فى بلاد المهجر. أى أن القضية الأساسية تتعلق بضبط العلاقة بين المهاجرين ودول المنشأ ثم تأتى بعد ذلك قضية الأمن. فَلَو أن الدولة فتحت أراضيها للنشاط الانتخابى لمسئولى الحزب الحاكم فى دولة أخرى فلن تجد ما تبرر به منع الأنشطة الانتخابية لمسئولى الأحزاب المعارضة فى هذه الدولة، ومعنى هذا أن يصبح المهاجرون هدفا لزيارات وضغوط مسئولى الأحزاب المختلفة بحيث تجد دولة المهجر نفسها فى أتون معترك انتخابى لا شأن لها به ووسط مزايدات تنذر بفوضى أمنية. لقد مرت تركيا منذ سمحت للمهاجرين بالتصويت فى الخارج عام 2014 بانتخابات رئاسية واحدة وبانتخابين تشريعيين لكنها لم تقدم على تجنيد كبار مسئوليها لتعبئة المهاجرين للتصويت سواء لحزب العدالة والتنمية أو لأردوغان ذاته عندما ترشح للرئاسة، فما ألجأ أردوغان إذن إلى هذا التجييش الخارجى ؟ ذهب البعض إلى أن الرئيس التركى لا يثق فى نتائج الاستفتاء الذى يجرى بعد شهر من الآن، والواقع أن توازنات القوة الداخلية بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية من جانب وحزب الشعب الجمهورى وحزب الشعوب الديمقراطى من جانب آخر تصب فى صالح تمرير التعديلات الدستورية - ولو بأغلبية بسيطة قياسا على نتائج آخر انتخابات تشريعية. يضاف لذلك أن أردوغان أجرى حركة تطهير واسعة فى صفوف المعارضة التركية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة ضده، ومن هنا فإن تبرير تسويقه الخارجى للتعديلات الدستورية بخوفه من رفضها تبرير لا يستقيم، أما الذى حركه فى تقديرى فيرجع لعاملين لا علاقة مباشرة لهما باستفتاء أبريل المقبل، وهذان هما : أولا انزلاق أردوغان نحو المزيد من الشعبوية مع التضخم الشديد فى ذاته علما بأن هذه الشعبوية بدأت إرهاصاتها عام 2009 من خلال الانسحاب المسرحى من لقاء جمعه بشيمون بيريز فى منتدى دافوس، وثانيا ابتزاز اليمين الأوروبى بما يخدم مشروع االخلافة الإسلاميةب بتصوير الخلاف مع أوروباعلى أنه حرب على الإسلام، وللأمانة فإن بعض تصريحات اليمين المتطرف تصب فى هذا الاتجاه وتتخذ من الحرب على الإرهاب منصة للهجوم على الإسلام نفسه. تقودنا النقطة الأخيرة للتوقف أمام ردود أفعال الدول الأوروبية التى كانت طرفا فى الأزمة مع أردوغان، فعدد من هذه الدول مقبل على انتخابات وشيكة ينافس فيها اليمين بقوة ويتخذ مواقف شديدة العداء تجاه المهاجرين، ويستفيد اليمين المتطرف من التصريحات النارية التى أطلقها كبار المسئولين الأتراك و التى تستخدم أشد الإسقاطات التاريخية إيلاما بالنسبة للغرب كما فى التشبيه بالنازية والفاشية. بقول آخر فإن أردوغان قدم لقوى اليمين على طبق من ذهب ما تبرر به عداءها للمهاجرين بل وهجومها على الإسلام ذاته. ويفسر لنا ذلك حدة الموقف الرسمى الهولندى من ترويج تركيا لتعديلاتها الدستورية، فليس من اللياقة الدبلوماسية منع طائرة وزير الخارجية التركى من الهبوط فى روتردام ثم ترحيل وزيرة الاسرة من بعد وكأن المطلوب هو استفزاز الرئيس التركى المعتد بنفسه . ومن هنا فعندما يقول أردوغان مخاطبا الهولنديين «سنعلمهم الدبلوماسية الدولية» يكون السؤال أين هى الدبلوماسية فى سلوك طرفى الأزمة من بدايتها وحتى الآن؟ لقد بدا المشهد وكأننا إزاء لعبة شد الحبل بين «أمتين فخورتين» كما تردد فى بعض المُلاسنات. لقد بعثت الأزمة التركية-الأوروبية برسائل كان مطلوبا إرسالها، أما وقد وصلت الرسائل لمن يهمه أمرها فسوف تخف الأزمة بالتدريج ولنا فى الأزمة الروسية - التركية خير مثال حين تغلبت المصالح المشتركة على أحداث جسام فى علاقة الدولتين. إن أوروبا تحتاج إلى دور تركيا فى الشرق الأوسط فلا يمكن إغفال هذا الدور فى مواجهة إيران وعند أى ترسيم جديد للخرائط بعد التطورات فى سوريا والعراق ، ومن جانبها تدرك تركيا حجم مصالحها الاقتصادية مع أوروبا، ولذلك فإنه بينما بلغ التصعيد الدبلوماسى ذروته بين الجانبين أُبقى على باب التراجع مواربا فتحدث رئيس وزراء هولندا عن استعداده لتجاوز الأزمة لو ساعدت فى ذلك تركيا، وقال الرئيس التركى إنه يدافع عن القيم الأوروبية.... قاتل الله السياسة ومناوراتها! لمزيد من مقالات د.نيفين مسعد;