عندما يوجّه إليّ سؤال عن تفاعل النقد مع الحياة الأدبية العامة، وعندما يوجّه إليّ سؤال عن مهمة النقد، ودوره وقيمته فى حياتنا، كنت أجيب، دوْما، بأنّ النقد الموضوعى ألْتمسه،حقا، فى الدراسات والبحوث الأكاديمية؛ لأنها بطبيعة الالتزام بالمنهج العلمى تتوخّى الدقة، وتستهدف الموضوعية، وتتجافى عن المجاملة، وتغالب نزعات الوجدان، وبذلك ننجو من بعض عيوب النقد فى حياتنا، تلك العيوب المتمثلة فى سمات عديدة، على رأسها: المجاملة، أو المكايدة، والأمران، على تناقضهما، يجنيان على العملية النقدية، ويحولان دون رسالتها، ولا يساعدان عملية التلقى فى أداء رسالتها الحيادية بين المرسل والمتلقي ويرتفع صوت التساؤل لدى متسائل أشدّ اهتماما: أين درو النقاد الأكاديميين فى حياتنا الأدبية؟. وهل هم متقوقعون فى ديارهم الجامعية؟. وبالمصادفة البحْتة، تلقّيْت كالعادة من لجنة ترقية الأساتذة المساعدين بالجامعات المصرية إنتاجا لزميل متقدم للترقية إلى تلك الدرجة، وحين أخذت فى النظر فى أول بحث من بحوثه الخمس، وجدْت العنوان ( الرؤى والتجريب الروائي، قراءة نقدية فى « أخبار عزبة المنسيّ»، ليوسف القعيد»)، وهى مصادفة علْمية تثْبت أن الأكاديميين: شيوخا، وشبابا مشغولون بالحركة الأدبية المعاصرة، غير منعزلين عنها، وأنهم جزء لا يتجزأ منها، وقد سمحْت لنفسى أنْ أذْكر هذا المثال بعد أن تعدّى الأمر مرحلة سرّية الفحص والتحكيم؛ إذْ رقّى الزميل الفاضل، ومن بحوثه العديدة كان البحث فى عالم يوسف القعيد، وقد أسعدنى ذلك كثيرا. ومرة أخرى تذكّّرْت هذا الرأى حين طلب منى زميلاى النابهان أ.د. عبد المرضى زكريا، وأ.د. أحمد سعد، الأستاذان بكلية التربية، بجامعة عين شمس المشاركة فى مناقشة رسالة، والحكْم عليها، وذلك لنيل درجة الدكتوراه للباحثة الواعدة الدكتورة هدى السيد محمد علي، المدرس بقسم اللغة العربية بكلية التربية بجامعة عين شمس، وعنوانها: توظيف الصورة البيانية فى البناء الروائى عند يوسف القعيد وحينئذ استدعتْ ذاكرتى ما أومن به، مما أشرْت إليه فى مقدمة حديثي، وعلى الفور توافدتْ أمامى عنوانات لرسائل علمية سابقة سبحتْ فى فضاءات يوسف القعيد فى جامعات مصر، وفى بعض الجامعات العربية، وأقتصر منها على نماذج، معتذرا لمن خانتنى ذاكرتي، إذْ لم تحضرنى عنواناته. من ذلك الرسائل الآتية: البعد الاجتماعى فى رواية (يحدث فى مصر الآن) لصالح سليمان عبد العظيم، ودراسة سوسيولوجية لرواية (يحدث فى مصر الأن) لحسين شريف الودغيرى رشيد، ودراسة لرواية (يحدث فى مصر الآن أنموذجا) للمنجى الأسْود، والسرد وإنتاج المعنى فى روايات القعيد لبديعة الظاهري، ومحمد يوسف القعيد: حياته وأدبه لمحمد أبو المجد، ويوسف القعيد روائيا( 1969 1999) لسمية الشوبكة. و فى المضمار نفسه ما صدر من كتب عن القعيد لكل من: د.يوسف الصميلي، ود.صالح سليمان، ود.مصطفى بيومي، ود.سيد إمام، وزملائه، وغيرذلك مما خصص لدراسة إبداعه الروائي، وهو كثير، أو مما صدر من دراسات جمعتْ بين دراسة إبداعه، ودراسة إبداع غيره من الساردين، ومنها:الإبداع الأدبى فى الرواية المصرية للدكتور مصرى حنورة، وأدب الحرب عند قؤاد حجازي، ويوسف القعيد لنشوى أحمد حلمي، وخطاب التواصل فى الرواية العربية المعاصرة لأسماء إبراهيم، ومحمد يوسف القعيد والرواية المصرية لحسين عيد، ويوسف القعيد شهادات واقعية أعدها أحمد زرزور. ولا يحول ذلك دون التنويه بكتابات الكثيرين، ومنهم: جهاد فاضل، وعبد الرحمن أبو عوف، وعمرو عبد السميع، وشوقى بدر، وكيربيشينكو، وغيرهم، وما دار فى علم الأدب المقارن، كالمقارنة بين الجديد عنده، هو والغيطاني، وصنع الله إبراهيم، من ناحية، والرواية الفرنسية، من ناحية ثانية، أو المقارنة بين الواقعية لديه هو وصنع الله، من ناحية، وروائى أوربي، من ناحية ثانية، وهو كثير. وكذلك ما دار معه من حوارات بمجلات وصحف، ومنها: وطني، الإذاعة والتلفزيون، الزهور، فصول، الوطن بالكويت، الطليعة بالعراق، القصة، أدب ونقد، آفاق عربية، العرب، الصياد، المساء، والقادسية، وغيرها مما حصرته ببليوجرافيا د. حمدى السكوت(ج 3، ص 1398 1402). ونعود إلى الرسالة الأحدث، تلك التى تعمّقتْ وفْق منهج علمى دقيق لغة السرد عند يوسف القعيد، واقفة على الدور الفنى الذى قامت به الصورة البيانية فى لغة السرد، وحواره من تسلسل الأحداث، ورسم الشخصية الروائية، ونموها، وتجسيدها، وبنائها عنده، وتنوعها بين شخصيات ونماذج إنسانية رسمها القعيد، بمهارة فنية، مستوحيا إياها من الواقع، ومن التاريخ، ومن فضاء الصوفية، والأسطورة، ومن الرمز، سواء أكان ذلك فى الريف أم كان فى الحضر، بما فى ذلك من سمات، وصفات، وسلوك، وطبائع، ومواقف، وفتن، ومحن. وهى رسالة الكتورة هدى السيد محمد علي، الرسالة عمل علمى متميز مكتمل البناء، نحجت فيه الباحثة فى الإبانة عن توظيف الصورة الفنية ودورها فى استبطان الشخصية السردية، ليكتمل الوصف الداخلى مع الوصف الحارجى فى عرْض النماذج البشرية المتنوعة، بأحداثها، والتباساتها، وهوالذى نهل فيه المبدع السارد من سيرته الذاتية المعتمدة على خبراته الحياتية الواقعية العملية، وبخاصة الممارسة الصحفية الفعلية، وقيامه بأداء الخدمة العسكرية الحربية، وهو ما نرى مثله لدى بعض الأدباء الذين مارسوا الحياة عمليا، فظهرتْ بصمات ذلك فى إبداعهم. ومن هنا تتأكّد لديّ حقيقة ما صدّرْت به مقالى هذا من سلامة النهج النقدى الأكاديمي، واقترابه من الموضوعية إلى حد كبير، وذلك ببعده عن: المجاملة، والمكايدة، معا، وبذلك أرجو ألا يفهم كلامى على أنه انحياز، أو تفضيل لرؤية الأكاديميين على غيرهم، فإنى منهم، أوّلا، وأخيرا. ولكننى أقصد أن احتمالات المجاملة، أو عكسها أقل ورودا فى النقد الأكاديمى عنها فى النقد غير الأكاديمي، وفى كل خير.