كشفت أحدث دراسة علمية عن قضية «السرد فى روايات يوسف إدريس» - التى أعدها الكاتب الصحفى مجدى العفيفى رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب.. وحصل بها على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى وطبع الرسالة على نفقة الجامعة وتبادلها مع الجامعات - أن الخطاب النقدى حول أدب يوسف إدريس السردى قد تغافل كثيرا دراسة أعماله الروائية دراسة فنية شاملة، بالقياس إلى الأهمية البالغة لدراسة قصصه القصيرة ومسرحياته، فلم تحظ رواياته بالقدر الكافى من البحث الأكاديمى والدرس النقدى، بل إن مكتبة الدراسات الأدبية تفتقر إلى دراسة فنية شاملة للتكنيك الروائى عند يوسف إدريس، خاصة فى ظل تعددية مناهج السرد وتطورها المستمر. وأن أعمال يوسف إدريس وحدة متناسجة ذات قوة فنية تربط كل أعماله الإبداعية وتؤكد عدم جدوى التقسيمات ووصفها بالاختزال المرحلى لمسيرة أربعين عامًا وإغلاق آفاقها الممدودة التى تحلق فيها نصوص السردية. وقدمت الرسالة أطروحة نقدية لمعرفة مدى تحقق الأبنية الفنية وشواهد المعمار الأدبى فى عالم يوسف إدريس الروائى عبر القراءة الكاشفة لرواياته التسع:«قصة حب» و«قاع المدينة» و«الحرام» و«فيينا60» و«العيب،» و«العسكرى الأسود» و«النداهة» و«البيضاء» و«نيويورك 80 » وهى تشكل أحد أضلاع المثلث الإبداعى ليوسف إدريس «فن القصة القصيرة، وفن الرواية، وفن المسرح» الذى يرتكز على منظومة تتجلى فى وحدة إبداعية متجانسة، وحدة وجود، ووحدة فن، ووحدة فكر، تحكمها رؤية شاملة تنتظم أعماله الإبداعية، بما تطرحه من رؤى عميقة ومتطورة للإنسان والعالم والكون، وبما تحمله من معطيات فكرية ذات مرجعيات معرفية وجمالية، وبما تصوره من أنساق فنية يفضى بعضها إلى بعض عبر استراتيجية متناسجة فى تجلياتها السردية على تباين أشكالها وتعدد مستوياتها. وقد سعى د. مجدى العفيفى فى أطروحته إلى الكشف - أولا - عن النظام العام لأدب يوسف إدريس الروائى والكشف - ثانيا - عن العلاقات التى تجمع بين عناصر البناء المختلفة، بتقديم رؤية نقدية، لاستكشاف التشكيلات الجمالية فى روايات يوسف إدريس، حيث تتبدى العناية بمفردات الخطاب الروائى التى تلقى بظلالها على تضافر هذه الأبنية لصالح الخطاب والحكاية معا، من حيث التماسك الفنى، ومن حيث جدلية العلاقة بين العناصر الروائية، بما يثرى النظر فى تكوينات الخطاب العام. ثم الكشف - ثالثا - عن القيم الجمالية التى ينطوى عليها، بتحليل المكونات السردية للخطاب الروائى، وكيفية تضافر مقومات السرد وتحليل عناصره ووظائفه وتقنياته، ارتكازا على المنهج الجمالى الاجتماعى، وهو المنهج الذى ينظر به الباحث إلى الأدب من ناحية، كما أنه المنهج الذى يتناسب ودراسة البناء السردى لروايات يوسف إدريس من ناحية ثانية، ويساعد فى الكشف عن الدور الذى لعبته أعماله بتأصيل الإنجاز الأدبى الذى حققته هذه الأعمال من ناحية ثالثة. وقد أجابت الدراسة عن مجموعة من التساؤلات أهمها: كيف استطاع يوسف إدريس ان يجسد جماليات البناء السردى فى رواياته؟ وإلى أى مدى يتحقق تضافر الأبنية الفنية فى أعماله الروائية؟ وإلى أى حد تشير رواياته إلى تطوره الفنى اعتمادا على بنية فكرية تتمثل فى رؤية للعالم تتوسط ما بين الأساس الاجتماعى الذى تصدر عنه، والأنساق الفنية والفكرية التى تحكمها هذه الرؤية وتولدها؟ ومن ثم تعاملت الدراسة مع نصوص يوسف إدريس الروائية بوصفها بنية نسقية إبداعية تولدت عن بنية اجتماعية، لاسيما أن أدب يوسف إدريس يشكل خطابا نصيا كليا، وليس وحدات جزئية مشتتة، بل إنه منظومة سردية تتجلى فى الوحدات الصغرى بقدر ما تتجلى فى الأبنية الكلية للنص، وبالتالى تتكشف خواصها الحقيقية من خلال تحليل بنية الخطاب تشكيلا ودلالة، بإنشاء جدلية مع النصوص لاستنطاق محتواها، وسبر أغوارها، وبيان دلالاتها. إدراك كامل للواقع وذكرت الرسالة أن يوسف إدريس عاش مكافحا من أجل تحقق الشخصية الإنسانية حتى يجد التعبيرالملائم عن مضامينه فى صياغة الأشكال الجمالية التى أبدعتها منظومته الروائية التى تكونت ما بين عام 1957 وعام 1980 وهى الفترة التى شهدت كثيرا من التحولات فى المجتمع المصرى، بثوابته ومتغيراته، بل هى من أكثر الحقب فى التاريخ المصرى المعاصر توترا على الصعيد السياسى، وعلى المسار الاجتماعى، وعلى المشهد الثقافى، حيث تشكلت رؤية يوسف إدريس للعالم عبر عالمه من خلال إدراكه الشامل للواقع الموضوعى ككل متكامل، وهو واقع كانت متغيراته أكثر من ثوابته إلى حد كبير، وقد تخلصت هذه المنظومة الإبداعية إلى حد كبير من التباسات الواقع السياسى والاجتماعى - وإن كانت مرتبطة بلحظتها المتعينة تاريخيا - لتستبقى الجوهر الأصيل الذى لا يزال يضىء بالقيم فى انسيابها عبر الزمان والمكان وتجاوزها الإطار الجزئى والتاريخى إلى الكلى والإنسانى. واقعية إدريس وقال د. مجدى العفيفى إن الواقعية قد اكتملت على يدى يوسف إدريس، الواقعية بمعناها الإنسانى العظيم الذى يصور الانسان والمجتمع باعتبارهما كيانات كاملة، لذلك تتحقق فى نصوص يوسف إدريس المعادلة الصعبة بين كسر المذهبية الفكرية ورفض المذهبية الفنية من خلال رؤيته هو، فاتجهت أعماله مباشرة إلى البحث الداخلى، وإلى الدائرة المحيطة به، بمعنى أنه اتجه إلى الكائن الحى، لأنه كان يريد العثور على حقيقته أولا، على المرفأ الخاص به الذى يبحر منه إلى عالم الإبداع فكان الغوص فى طبقات الذات الفردية الجماعية هو الدافع لاكتشاف الخاصية المصرية التى تؤهله لكتابة قصة مصرية، كما يتصورها هو، لا كما كانت قائمة، ومن هنا يتمثل الانجاز الكبير ليوسف إدريس فى خلق قصة مصرية جدا، من خلال البحث فى جوهر الشخصية المصرية فكان المواطن المصرى البسيط هو المجلّى الأساسى، كنقطة ارتكاز فى انجازه الفنى، ويظل يبسط حضوره فى جميع أعماله القصصية. وتستحضر واقعية يوسف إدريس الحياة بكل حضورها، وتبدت مقدرته فى أقصى تكثيف ممكن للمحتوى الذى يتضمنه الجوهر الاجتماعى والانسانى لموقف متعين، وهو ما يتجلى فى أعماله التى استغرقت علاقة الفرد بالمجتمع بكل تناقضاتها، أوالتى تصور علاقة الانسان بالعالم بكل تعقيداتها وتشابكها، عبر مجموعاته وتحولاته، وظلت متجددة فى كل أعماله، متمثلة ومجسدة، الأمر الذى يؤكد جرأة وجسارة يوسف ادريس فى التشكيل والدلالة، بالاستيعاب العميق لمختلف متناقضات الواقع المصرى، خاصة فى قاع المدينة وعمق الريف على السواء، وغاصت أعماله فى هموم وجراح واشواق هذا الواقع، واستطاعت ان تعبر عنها تعبيرا فنيا مكثفا، سواء فى مظاهرها النفسية الفلسفية أو فى سياقاتها المجتمعية، أو فى التناسج والتداخل بينهما، فأضاء جوانب خافية من الواقع المصرى، وكشف عن خصوصية هذا الواقع، كما اعطى لفن السرد خصوصيته المصرية. تضافر الأبنية الفنية وكشف الباحث د. مجدى العفيفى أن يوسف إدريس فى عالمه الروائى كان يصور كثيرًا من شرائح المجتمع بتعدد مستوياتها وتنوع طرائق تصويرها.. وأن الراوى فى برنامج يوسف إدريس السردى بسيطًا كان أو مركبًا، وضعية شديدة التعقيد، ومدى قدرته على تحقيق التكافؤ السردى وأن دراسة الراوى الفنى هى دراسة للخطاب السردى، لاسيما أنه يمثل الصوت الشعرى المختبئ تحت الخطاب اللغوى، بالإضافة إلى تضافر الأبنية الفنية ثلاثية الحدث والزمان والمكان باعتبارها ثلاثية متداخلة ومترابطة تتفاعل وتتكامل كعناصر فنية متفاعلة لخدمة الاستراتيجية السردية. نتائج الدراسة وكان من أهم نتائج الدراسة التى تكونت لجنة مناقشتها من د. عبد المنعم تليمة أستاذ النقد والجمال بكلية آداب القاهرة ود. عبد الناصر حسن أستاذ البلاغة والنقد بجامعة عين شمس أعضاء ود. أحمد شمس الدين الحجاجى أستاذ الأدب بآداب القاهرة مشرفًا. أن الدراسة أثبتت مدى أهمية خطاب العتبات كمرتكز تأسيسى فى منظومة يوسف إدريس الإبداعية، بما تمثله من مواقع استراتيجية فى النص سواء كانت عتبات خارجية أو داخلية، بأنماطها المختلفة، ووظائفها المتعددة، ومدى تمثيلات هذه العتبات كمادة ثرية للعمل النقدى، وحقل تجارب للتحقق الفنى. وطالب د. مجدى العفيفى بوقف الطبعة الحالية من رواية "الحرام" إذ من الملاحظ أن الطبعات الأخيرة من رواية «الحرام» قد ارتكبت ما يسميه الباحث «جريمة ثقافية» فى حق المبدع يوسف إدريس، إذ امتلأت الطبعة الحالية من الرواية بعشرات من التغييرات والتحريفات والاستبدالات فى بنية النص، وأوصت الدراسة بوقف هذه الطبعة وعدم تداولها، احتراما لحقوق مؤلفها وتاريخه، وامتثالا لحقوق الملكية الفكرية، وقد ذكر الباحث أنه أخبر دار النشر التى تتولى طباعة أعمال يوسف إدريس بخطورة هذه التغييرات العبثية، ولكن دون جدوى. وتعرضت الدراسة لكيفية تصوير يوسف إدريس كثيرا من شرائح المجتمع، بتعدد مستوياتها، وتنوع طبقاتها تشكيلا ودلالة، وقدرته على تجسيد هذه النوعيات بتناقضاتها وتقابلاتها شكلا ومضمونا، ومدى تمثله هذه العوالم بأطيافها وعذاباتها واشكالياتها رؤية وأداة، عبر أدوات التصوير الفنى فى برنامج الكاتب السردى كمرايا متجاورة. وأوضحت الدراسة مهارة الكاتب فى تصوير العلاقات الإنسانية، بإدخال ما هو استثنائى إلى ما هو يومى، واختيار وعرض صور وظواهر الحياة اليومية من التهميش إلى قلب الحياة بطريقة غير ملحوظة، وإدخال الأحياء الفقيرة فى المدن وسكان القرى والكفور والنجوع من خلال الفعل الإنسانى فى العمل الروائى بربط الإنسان بالإنسان، ووضع إنسانية الإنسان فى وضعيات استثنائية قادرة على أن تكشف عن حقيقته، لذلك فإن شخصياته تخضع لمنطق الفعل البشرى، فتتعرض للخوف والقلق والتردد والتمزق والضعف والقوة لذا تنمو وتتطور، وتتأثر بالزمان والمكان، ولا تقف متعالية خارج حدود الضعف الانسانى، بل هى شخصية إشكالية يحفظ لها توازنها بالكشف عن جوهرها داخل الحياة نفسها، حين يحولها بشكل غير مباشر، من الشبح الى الإنسان والواقع الحقيقى، واستحضارها ومعها لغاتها وأخيلتها من عالمها الخاص، ولها قضاياها ومواقفها من العالم. قوام الشخصية الروائية وأثبتت الدراسة مدى تضافر مجموعة من الملامح الفنية التى تشكل قوام الشخصية الروائية فى عالم يوسف إدريس، فتظهرها أكثر اغتناء فى حركيتها، وأعمق تركيبا فى بنيتها، وأغزر خصوبة فى تحولاتها، وهو أحداث رواياته فى عوالم بشرية متباينة ومحتملة، ويعهد بالبطولة إلى شخصيات لها بالواقع الخارجى صلات متينة، يجعلها تتحرك فى فضاءات اجتماعية وسياسية وحضارية يشدها إلى خارج النص علاقات وثيقة، ويعدد الإشارات إلى الأزمنة والأمكنة المرجعية التى لها من الماضى معالم لا تزال تتحدى الزمن، ولها إلى الحاضر انتماءات تشهد عليه، فالحدث والزمان والمكان ثلاثية متداخلة ومترابطة، تتضافر كعناصر فنية متفاعلة لخدمة الاستراتيجية السردية. واقعية إدريس أوضحت الدراسة أن يوسف إدريس يتكئ فى سردياته الروائية على الواقعية بمعناها الإنسانى العظيم كمنهج للتشكيل الفنى المناسب لرؤاه بنزوعها إلى تصوير المشكلات الرئيسية للوجود الإنسانى، لكنه يتمايز بأنه صنع لفنه واقعية خاصة به، فهو بقدر ما يكسر المذهبية الفكرية، يرفض المذهبية الفنية، ويتأبى على التصنفيات الضيقة، بنزوعه الى الاستقلالية، والتجريب المستمر، وأن المغايرة لديه تقع فى طرائق التعبير، ومن ثم فإن أعماله قادرة على أن تحتفظ بقيمتها وقيمها خارج اللحظة التاريخية والاجتماعية المتعينة، وأن نصوصه الروائية تتجاور، لتتحاور مع نصوص قصصه القصيرة، لتتشكل الحقيقة الموضوعية الدالة على إنجازه الأدبى، وهى الأكثر تحققا لدوره فى الفن القصصى، عموما، وأن كفاح يوسف إدريس الفنى يتجلى من أجل الشخصية الإنسانية، من خلال تصوير أنماطها لتتكشف تناقضات الوجود الإنساني، وأن الإنسان بأشواقه وعذاباته، هو الركيزة الأساسية والتأسيسية فى رؤيته الفنية. أكدت الدراسة أن أعمال يوسف إدريس الروائية تجدد نفسها مع كل قراءة كاشفة، من حيث انفتاحها فى مظاهرها الدلالية، ومن حيث قدرتها على تشكيل جدلية مستمرة بين فن يدعو إلى التفكير وفكر يحقق الفن، من خلال الرؤية الشمولية التى تنتظم مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية والانسانية، داخل أنساق فنية وتشكيلات جمالية تمكن من إدراك العالم بصورة عميقة. ??? عمومًا فهذه الدراسة تطمح إلى فتح آفاق جديدة لعالم يوسف إدريس الروائى واستثمار معطيات علوم السرد الحديثة لاكتشاف المزيد من عطاءات أعماله لا سيما أنها إبداعات تتجدد مع كل قراءة بما تحتويه من قيم جمالية ثرية فتخترق الزمان والمكان والإنسان. وكان مجدى العفيفى قد حصل على درجة الماجستير فى البناء الفنى للقصة القصيرة عند يوسف إدريس.. وبهذا البحث العلمى الجديد لمجدى العفيفى يكون قد أكمل مشروعه الأكاديمى حول إبداع يوسف إدريس كما أشارت إلى ذلك لجنة المناقشة التى استغرقت ثلاث ساعات وحضرها جمع غفير من المثقفين ورجال الفكر والأدب والإعلام والصحفيين.. وأتمنى أن يقوم د. مجدى العفيفى بطبع هذه الرسالة ليستمتع بهاء قراء يوسف إدريس بعد أن سلطت هذه الرسالة الأضواء على عالم يوسف إدريس الروائى.