لم تكن مصر مجرد وطن يعيش فيه بعض من البشر يطلبون أسباب العيش، ويعيشون على أرض يقضون أياماً ثم تنتهى بهم الحياة. ولكن كانت مصر دائما هى بقعة ضوء وحالة حضارية خاصة، أراد الله أن تحمل رسالة مهمة للعالم كله. وحتى فى حالات الضعف والخضوع لسيطرة الاحتلال كان الصوت العميق من التاريخ لا يزال يتردد فى أصداء المسكونة ويُعلم من الماضى رغم ضعف الحاضر عمق وقوة تجعل من مصر دائما المنارة التى لا تنطفئ. وقد كان الفراعنة ينشئون المعابد وكان يلحق بكل معبد مدرسة ومكتبة ومستشفى ومحكمة ومركز إداري، وكان يدعمون كهنة المعابد بالعطايا والهبات. كما كان المعبد ينظم الاحتفالات والأعياد ويشرف على تعاليم المنطقة المحيطة به. كما يخبرنا التاريخ أنه حينما جاء الإسكندر الأكبر إلى مصر وبنى الإسكندرية كان يريد أن يحقق حلماً هو التوافق بين الشعوب على أرض تلك المدينة. وحينما وجدوا أن المكتبات ملحقة بالمعابد فى مصر بنوا معبدا ضخما للإله سيرابيس الذى تكلمنا عنه سابقا وألحقوا به مكتبة كبيرة هى مكتبة الإسكندرية. وأراد البطالمة أن يجعلوها أعظم مكتبة فى العالم فكلفوا أحد كهنة الفراعنة وهو «مانيتون» بترجمة ما فى المكتبات الفرعونية وعمل نسخة يونانية لها. ولأن الإسكندرية كان بها جالية يهودية كبيرة فاستقدم بطليموس سبعين شيخاً من حكماء إسرائيل ليترجموا التوراة والعهد القديم إلى اليونانية. هذا بجانب تجميع كل ما كُتب من فلسفات وثقافة يونانية حتى إن كل المؤرخين أجمعوا على أن الفلسفة الهيلينية وهى فلسفة أفلاطون وسقراط وأرسطو قد انتهت فى اليونان فى القرن الرابع قبل الميلاد ولكنها أعيد انتشارها وإحياؤها فى الإسكندرية. بالرغم من أن الكثير من المؤرخين يقولون إن تلك الفلسفات قد تأثرت بالفكر المصرى القديم وأنهم تعلموا واستقوا العلم على أيد المصريين. وحينما احتل الرومان مصر اتخذوا من الإسكندرية عاصمة لهم التى كانت مختلطة الأفكار والثقافات، ففيها الفكر الهيلينى الثقافى اليونانى تنشره مكتبة الإسكندرية التى كانت فى معبد السيرابيون، بجانب الفكر المصرى القديم، بجانب الفكر والديانة اليهودية التى كانت لها نشاط كبير فى الإسكندرية، وكانوا دائمى الثورة والمطالبة بامتيازات خاصة وأحياناً كانت تحدث صدامات دموية بينهم وبين الإغريق والمصريين السكندريين حتى حدثت مذابح عامة فى الشوارع نتيجة هذا التطاحن عام 38 ق.م.. كما حدث صدام آخر وقت الإمبراطور كاليجولا الذى اصطدم معهم لأنهم رفضوا أن يؤمنوا بألوهيته. وانتشرت فى الإسكندرية أيضاً جماعة يهودية بنوا مستعمرة على بحيرة مريوط سموا أنفسهم جماعة السيرابيوتى (20 ق.م.) وهى تعنى الأطباء، وكانوا يعيشون فى حالة نسك شديد يتنازلون عن ممتلكاتهم لأقربائهم، ويعيشون حياة مشتركة، لا يتناولون الطعام قبل الغروب، ويقضون أوقاتهم فى العمل والصلاة والتأمل فى التوراة والكتب المقدسة ولكنهم كانوا يتزوجون. وإذا تركنا الإسكندرية بهديرها الثقافى وصراعها العرقى وننتقل إلى باقى ربوع مصر نجد أن البطالمة قد نشروا معابد فى كل ربوع مصر لآلهتهم ولكنهم لم يقضوا على الفكر المصرى القديم بل استمروا فى دعم المعابد والكهنة. ولكن طيلة فترة البطالمة اضمحل التعليم والفكر اللاهوتى المصرى ودخل إلى الثقافة المصرية الفكر اليونانى نتيجة انتشار اللغة اليونانية مما أدى إلى سطحية الفكر الدينى ودخول آلهة اليونان فى مفردات العبادة المصرية القديمة. ومع بداية حكم الرومان اختلف الحال كاملا فقد نشر الرومان آلهتهم الوثنية فقد قام الإمبراطور أغسطس بمصادرة أملاك المعابد وإلحاقها بملكية الدولة وحرموا الكهنة والمعابد من الدعم المالى فأغلقت المعابد الفرعونية وانتهت الكتابة المقدسة والأناشيد، وتم تشريد الكهنة المعلمين نتيجة فرض ضرائب باهظة، بل وفُرض فى المحافل والأعياد الاجتماعية تقديم القرابين للآلهة الرومانية فانتشرت العبادة الوثنية. وأصبح المصرى القديم فى هذه الفترة يحمل تراثاً حضاريا ممثلا فيما هو موروث من فكر وتقليد وأعياد كانت لا تزال فى الأسرة المصرية وفى نفس الوقت ما يفرضه الرومان من معابد وآلهة وصور كانت غريبة على المجتمع المصري، فلم يحترم الرومان الحضارة المصرية والفكر المصرى كما احترمه البطالمة. ففى تلك الفترة دخلت مصر العائلة المقدسة تحقيقا للنبوءة التى قالها أشعياء النبى قبل مجيء المسيح بسبعمائة وخمسين سنة، ففى الإصحاح التاسع عشر تقول النبوءة إنه قادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر. ونفهم من هذه الصورة أن الأوثان التى ارتجفت هى معابد الرومان، وحينما كان يذهب المسيح فى أى مكان كانت تسقط تلك الأوثان، ولهذا السبب أيضاً لم يذهب إلى الإسكندرية التى كانت بها حضارة ومعابد وثنية خالصة. كما تقول النبوءة فى ذلك اليوم يكون مذبحا للرب فى وسط مصر، وهو المكان الذى سكن فيه السيد المسيح أكبر مدة فى زيارته إلى مصر، وهو الآن دير المحرق. فلابد أن نفهم أنه فى فكر العهد القديم لم يسمح الرب ببناء مذبح للعبادة اليهودية خارج أورشليم، لنفهم أن لمصر صفة خاصة ولها تدبير خاص عند الرب، وكانت هذه من أهم الأسباب التى جعلت السيد المسيح يأتى إلى مصر خصيصا. فقد كانت قصة الهروب من وجه هيرودس الذى أراد أن يقتله يمكن أن تحل بطريقة معجزية فالسيد المسيح الذى أقام من الأموات وصنع المعجزات يمكنه ألا يجعل عائلته تحمل مشقة رحلة الهروب ويصنع معجزة توقف شر هيرودس. وقد كان يمكنه أيضاً أن يذهب إلى بلد أقرب، فبعبوره البحر المتوسط يكون فى مأمن فيذهب إلى أحد بلاد أوروبا أو إلى أى بلد مجاور، ولكنه جاء إلى مصر قاصدا متعمدا لكى يواجه أوثان مصر كما تقول النبوءة. ولكى يضع قدمه على أرض بلادنا ليخبر العالم أن العمق والحضارة الروحية التى كانت تشع من هذه البقعة فى العالم ستظل قائمة بقوة روحية أعظم لن يستطع العالم بقوته أن يفرض الوثنية فى مصر وأن تضيع روحانية مصر. فقد أراد المسيح أن يأتى إلى مصر لتسقط أوثانها وليؤسس مذبحاً فيها، ولتستمر مصر بلدا يحمل عبقا روحيا وإشعاعا لا يضمحل. أما كيف كانت هذه الرحلة فهذا المقال المقبل إن شاء الله. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس;