في الرابع من هذا الشهر يكمل الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل عامه المئوي. وسعيد عقل ليس أكبر شعراء لبنان فحسب, لكنه أكبر شعراء العربية المعاصرين عمرا ومنزلة ومقاما في الشعر. وعندما يحتفل لبنان في هذا اليوم بعيده المئوي, فهو يحتفل بقامة شعرية باسقة, بزغ نجمها منذ بلغ الشاعر ثمانية عشر عاما, وبدأ صوته المتميز والمغاير بين شعراء جيله: الأخطل الصغير بشارة الخوري وإلياس أبو شبكة وأمين نخلة وغيرهم, يحمل سمات مدرسة شعرية أطلقت عليها صفات الرمزية والبارناسية والتبادعية وتراسل الحواس, الأمر الذي جعل الأخطل الصغير يقول عنه: لقد طرق سعيد عقل باب الخلود في سن مبكرة, وما لبث أن استقر علي الأريكة, وهو لا يزال يضفر لنفسه كل يوم إكليلا جديدا. إن سعيد عقل قصيدة الأرز المباركة, حروفها ألسنة البلابل, وإطارها براعم الورود. وعبر أعماله الشعرية والنثرية المتتابعة: المجدلية, وقدموس, ورندلي, ومشكلة النخبة, ولبنان إن حكي, وأجمل منك؟ لا, ويارا, وكأس لخمر, وأجراس الياسمين, وكتاب الورد, وقصائد من دفترها, ودلزي, وكما الأعمدة, والوثيقة التبادعية, وخماسيات, والذهب قصائد( ديوان بالفرنسية), وخماسيات الصبا, وعشتريم, ونحت علي الضوء وشرر, تكامل البناء الشعري الضخم الذي شيده واحد من أكبر البنائين في الإبداع الشعري, وتأكدت مكانته وريادته. وفي مقدمة عناصر المكانة والريادة لغة شعرية متفردة لم يطالعها قارئ الشعر العربي الحديث لدي شاعر سواه. لغة فيها شخصيته وملامحه وثقافته, وبناؤه المعرفي وفضاؤه الشعري المتوهج بصحبة من أحبهم من شعراء العربية وشعراء العالم- قدامي ومحدثين-, وفيها عنايته الشديدة بهندسة الجملة والعبارة وتنويع تراكيبها, وبعدها عن الرتابة والنثرية, مصطبغة دوما بالجمالية ومائية الشعر الحقيقي وكيميائه. يقول سعيد عقل في قصيدته سمراء التي أعجبت شاعرا عربيا فطلب من شاعر كبير الموهبة رقيق الحال أن يضمنها قصيدة تحمل اسمه وتصبح أغنية ذائعة: سمراء يا حلم الطفولة وتمنع الشفة البخيلة لا تقربي مني, وظلي فكرة لغدي جميلة قلبي مليء بالفراغ الحلو فاجتنبي دخوله أخشي عليه يغص بالقبل المطيبة البليلة ويغيب في الآفاق عبر الهدب من عين كحيلة وشتان بين الأصل الذي أبدعه سعيد عقل, والمسخ الذي كتب- بناء علي الطلب- تقليدا ومحاكاة, حتي يصل إلي ساحة الغناء! وقد قامت بين سعيد عقل وكبار شعراء مصر, علي مدار عمره الطويل الحافل, صداقات وعلاقات وثيقة, أولاها مع شوقي- أمير شعراء العصر الحديث- الذي اختار لبنان مكانا مفضلا للاصطياف في كل عام, وتلاقت العبقريتان الشعريتان في سن مبكرة, وكان معهما الأخطل الصغير بشارة الخوري. وعندما احتفلت مصر بشاعرها الكبير عزيز أباظة شارك سعيد عقل بقصيدته البديعة عملاق مصر التي يقول فيها عن مصر وشاعرها: عملاق مصر, قوافيك الكبار بنا بنبلها ما يزال الأرز يتسم ومن أنا لأرد اليوم بعض ندي؟ صم قوافي في رد الندي بكم إن شاعر هام بالنيل انتشت قمم في أرضنا, أو تصبي مادت القمم مصر هي المجد, كان المجد مذ ظفرت في البال, فالكون أذن بعدها, وفم إن ضامها الضيم مس الخالقين دني أو نالها الظلم راح الحق يظلم لبنان نحن, وها نحن الشهود لها ندين يوم انتصاف, ليس نتهم وصولا إلي بيته الرائع: ما لم نزن مصر وزن الحق يبق دم علي الضمير, ويبقي أن يراق دم! بدأ سعيد عقل رحلة إبداعه بالمسرح الشعري, واقترن هذا المسرح بفكره ونظراته في الحياة والكون وتأملاته العميقة في الإنسان والخير والشر والجمال والفضيلة, ومن هنا كانت أعماله الأولي تعبيرا عن هذه البداية ممثلة في بنت يفتاح والمجدلية وقدموس. وأكسبه المسرح والفكر معا ملمحين شديدي البروز في شعره هما الطابع الدرامي الذي يجعل لغته الشعرية حادة قاطعة مصقولة كالسيف, وخلفية قصائده مثقلة بتفاعل ثقافات وحضارات وتراث إنساني شامل. لهذا وصفه بعض دارسي شعره بأنه شاعر المعرفة والجمال, ففي شعره تلك الإضاءات والالتماعات التي كأنها إشراقات روحية وفضاءات كونية ومختزنات حكمة وخبرة إنسانية. وهي صفات لم تفارق سعيد عقل, في قصيدته البديعة عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين, عندما جاء إلي مصر مشاركا في ذكراه, وتأملوا هذا المدخل الشعري: ذكراك في البال ما ذكراك؟ قل ضربا علي هوي الرعد سيف أشعل السحبا وصولا إلي قوله في ختام قصيدته: واليوم مصرك من أطلقت, مصر مشت فاقرؤك شعب هدي, واقرؤك شعب ظبي هتفت باسمك, ما لقبت لي عذري من ذا يلقبها إلا بها الشهبا؟ طه حسين,ويكفي, ذاك منتهجي أنا كما السيف, طلقا أنزل الكتبا! ويا شاعر لبنان والعربية: عش أكثر وأبدع أكثر, ونحن بعض غواتك! المزيد من مقالات فاروق شوشة