علي غرار الكتاب الشهير لبنان إن حكي الذي أبدعه الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل أكبر الشعراء العرب المعاصرين عمرا وقامة, فهو مولود عام1908 أي أنه تجاوز القرن بعامين وكان هدفه من كتابة هذا الكتاب أن يبدع مدرسة في معرفة لبنان. مركزا علي ثلاثة عناوين للحضارة التي منشؤها لبنان: كتاب العناصر لإقليدس وهو ابن مدينة صور, وبعلبك التي اعلولت علي أرض لبنان بتعبيره هو, والأبجدية التي نشرها في العالم قدموس ابن مدينة صور, هذه في رأيه أعظم ثلاثة عطاءات أعطاها لبنان, حين كان لبنان مجد فينيقيا, وهي لا يمكن أن تزول, حتي لو زال لبنان الدولة الصغيرة التي هي اليوم. أقول: علي غرار هذا الكتاب الذائع الصيت لسعيد عقل, يبدع الشاعر اللبناني هنري زغيب كتابه الجديد سعيد عقل إن حكي, الذي يقول عنه إنه يحتوي علي خمسين ساعة من حواراته مع سعيد عقل حول حياته وفكره وشعره. ولم يكن بإمكان أحد أن يتاح له هذا الاقتراب الشديد من سعيد عقل, سوي هنري زغيب الذي امتدت العلاقة بينه وبين شاعره الأثير منذ عام1972, واقتربا فنيا وفكريا وروحيا, وباح له سعيد عقل بما لم يبح به لأحد, هو الذي بزغ نجمه في سماء الشعر منذ ثلاثينيات القرن الماضي, وقد بدأ حياته تركيزا علي الرياضيات وفي باله أن يكون مهندسا, لم يخطر له أبدا في تلك البدايات أن يدخل عالم الأدب. ويلخص سعيد عقل بعض خصائصه الشعرية بقوله: الشعر عندي افتعال, حتي الغزل كتبته من ضمن خطتي الواعية في سياقي الشعري, كنت منذ البدء مدركا تماما ماذا أريد من الشعر, جميع قصائدي مقصودة لإيصال رسالة جمالية أو فكرية أو فلسفية أو لاهوتية أو علمية, حتي قصائد الحب لها رسالتها الواعية. لم تكن مجرد أن امرأة أوحت لي هذه القصيدة أو تلك هذا أمر ثانوي. من هنا قولي إن الشعر افتعال لأجل هدف معين, كل فن صناعة علي الفنان أن يشتغله, لا أن يترك الفكرة تأتي علي سجيتها فينقلها كما هي قد تأتي المبدع فكرة من هنا أو من هناك, لكن العمل الفني كله لا يمكن أن يكون نتيجة تلقائية أتت كما هي الفن أن تشتغله. أن تصقله. وعبارة شاعر مطبوع ساذجة لا معني لها فهل نتصور أن المتنبي شاعر مطبوع؟ أو شكسبير؟ أو جوتة؟ ليس من فن( رسم, نحت, موسيقي, شعر) يبلغ أعلي مراتب الرقي إذا كان مجرد مطبوع أو بالفطرة أو علي السجية, الإبداع فيه أن يوحي للمتلقي بأنه مطبوع وعفوي, هذا الإيحاء لا يبلغه المبدع إلا بعد اشتغاله مرارا علي القطعة الواحدة صقلا وتنعيما وهذا ما عناه العرب في قولهم البليغ السهل الممتنع هكذا, كل واحدة من قصائدي أعمل فيها تغييرا وتنعيما وصقلا كي أرضي الكمال الذي دائما أتوق اليه, وهذا ما أعطانيه تعمقي في اللاهوت: أن أعمل حتي أصبح الأقرب من الكائن الأسمي. ويقول سعيد عقل شاعر لبنان الكبير في إجاباته عن أسئلة هنري زغيب: فيما كنت أطالع الآداب العالمية, توقفت طويلا عند اليونان لأنهم محطة مهمة في تاريخ البشرية يتشكل عقلهم في قيم يختصرها ثلاثة: شاعر هو هومير, وفيلسوفان هما أفلاطون وأرسطو, وقد تتلخص بنحو مائة سطر, ويمكن إيجازها في ثلاث كلمات: الحق والخير والجمال, وهذه الثلاث تلازم الكائن كي يكون كائنا, عادة تكتفي الشعوب في نتاجها بالحق والخير, لكن التي تريد لنتاجها أن يكون خالدا ومبدعا, يجب أن تتمم شروط الكلمات الثلاث معا: أي بزيادة الجمال, معظم الشعراء العرب يراعون في نتاجهم الحق والخير, ولا يأبهون للجمال يغيب عنهم أن الشعر فن جميل يرقي إلي أصفي مراتب النقاء والجمال, وهذا ما جعل شعر اليونان خالدا علي العصور لأنهم تشددوا في شرط الجمال. ويقول سعيد عقل: الحب أجمل عاطفة علي الإطلاق, شعب يكرم لمرأة يصدر عنه غزل راق, وإذا لم يكن يكرمها يصدر عنه غزل مزيف ينحو الي الخلاعة, الشعوب في شتي عصورها عرفت شعرا خليعين, شرط الغزل أن يبقي شهما فتقرأه الأم لابنتها وتبوح لها بأنه مكتوب بها, صعوبة الغزل أنه معرض للانزلاق إلي خلاعة يتأثر بها الجمهور غريزيا, وثمة شعراء كثيرون استغلوا هذه الغريزة فأكثروا من شعرالخلاعة علي أنه غزل, وما هو بذلك قط. ويعلق الشاعر اللبناني هنري زغيب علي مشاركات سعيد عقل في المهرجانات الشعرية واللبنانية والعربية بأن قصيدته في كل مهرجان هي عروس المهرجان, فقط انتقلت قصيدة المهرجانات علي يديه من مجرد مدح المحتفي به أو رثائه إلي شعر يحوي الغزل والجمال والمجد, كما خرجت قصائد تكريم الذكري عن الرثاء الحافل بالنواح والبكاء, وقد دعي سعيد عقل إلي مصر مرتين, في مهرجاني عزيز أباظة وطه حسين, بدعوة من وزير الثقافة يوسف السباعي, وكان شاعر لبنان حديث المهرجان الأول وهو يقول بيته الفريد في مصر: ما لم نزن مصر وزن الحق يبق دم علي الضمير, ويبقي أن يراق دم! كما كان حديث المهرجان الثاني, وهو يقول في طه حسين: آت معي زهر لبنان, وكنت صدي لثورة في بنيه تنزل العصبا هتفت باسمك, ما لقبت لي عذري من ذا يلقبها إلا بها الشهبا طه حسين ويكفي, ذاك منتهجي أنا كما السيف طلقا أنزل الكتبا! كتاب سعيد عقل إن حكي لهنري زغيب صفحات من الجمال والصدق والعبقرية! المزيد من مقالات فاروق شوشة