بعد انتخابه بالارادة الحرة واجبة الإحترام لأغلبية الناخبين المصريين, تعهد الرئيس محمد مرسي في خطابه الأول بأنه سيكون رئيسا لكل المصريين وعلي مسافة واحدة من الجميع; مؤكدا أن مصر بلد المصريين جميعا, ومعلنا أنه لولا ثورة يناير ما تولي رئاسة مصر. ويتحقق الوفاء بهذا العهد بأن يرفع الرئيس المنتخب راية الأمة المصرية; باعتبارها عنوان الهوية والولاء والانتماء, وأن يعلي المصالح العليا لوطننا العظيم مصر; وإن تعارضت مع رؤي ومصالح أي فصيل فكري وسياسي, وخاصة حزبه الحرية والعدالة ذراع جماعة الإخوان المسلمين. ويكون تأكيد هذا الإعلان بادراك أن ثورة25 يناير لا تكتمل فقط بإسقاط النظام السابق, الذي أهدر كرامة المصريين وسيادة مصر; وإنما بالدفع نحو وضع دستور يصدر باسم الأمة المصرية, ويؤسس نظاما جديدا يرتكز الي دولة المواطنة, حتي تكون مصر للمصريين فعلا وليس قولا, وتحمي حقوق المصريين بغير إقصاء أو تمييز لأي سبب. وقد كتبت قبل إنتخابات الإعادة الرئاسية, مؤكدا جدارة مصر بتقديم مثال دولة المواطنة, لشعوب عالمها العربي والإسلامي, بل وللدنيا بأسرها!! منطلقا من إدراك قدر مصر; أول دولة في التاريخ, وقدرة الأمة المصرية; أعرق الأمم قاطبة, وهي الحقائق التي يبدأ بها أول درس للتاريخ الإنساني, الذي يفتح كتابه فتجد مصر في المطلع!! وفي كتابة دستور الجمهورية الثانية, ليتذكر واضعوه أن الأمة المصرية, التي أبدعت الحضارة وإكتشفت الضمير, وبقيت طوال التاريخ حاضرة وفاعلة ومبادرة, قد تكونت في مجري عملية رائدة وفريدة; حولت مصر المكان هبة النيل الي مصر المكانة هبة المصريين; قبل أكثر من ستة آلاف سنة; أي ما يزيد نحو أربع مرات علي عمر تعريب لسانها بعد الفتح العربي ودخول غالبيتها الإسلام. وليتذكر من يجهلون عراقة الأمة المصرية وينكرون هويتها الوطنية ويبخسون مصر قدرها, ما سجله شفيق غربال في مؤلفه الرائد تكوين مصر, أنه لما جاء رواد علم المصريات الي مصر, عبر المسيو رينان عما تركته في نفسه آثار الحضارة المصرية بقوله: إن مصر قد ولدت مكتملة النمو; أي بالغة!! وقد كان بناء الوطن وتشكل الأمة في مصر مأثرة رائدة وملحمة فريدة, سجل أرنولد توينبي أنها كان إستجابة المصريين الخلاقة لتحدي عصر الجفاف; بأن هبطوا إلي وادي النيل, وأخضعوا طيشه لإرادتهم, وأقاموا القنوات والجسور, وحولوا مستنقعاته إلي حقول!! وسجل جيمس هنري بريستد, إن المصريين كانوا أقدم مجتمع علي الأرض إندمج في أول أمة موحدة تضم ملايين البشر تحت حكومة مركزية قوية. وفي كتابه مناهج الألباب بين رفاعة الطهطاوي أن عمران مصر فرض حتمية قيام الحكومة المركزية بإدارة وضبط وتوزيع مياه النيل وفيضانه. وفي كتابه شخصية مصر شرح جمال حمدان الأمر قائلا إنه بغير ضبط النهر يتحول النيل إلي شلال مدمر جارف, وبغير ضبط الناس يتحول توزيع الماء إلي صراع دموي. وأوضح طاهر عبد الحكيم في كتابه الشخصية الوطنية المصرية أن الحاجة للسيطرة علي الفيضان دفعت الجماعات الزراعية الأولي للإتحاد في إمارات أو دويلات, إتحدت بدورها في دولتي الدلتا والصعيد, حتي كانت وحدة مصر والمصريين النهائية في كيان اجتماعي وسياسي موحد نحو عام3200 ق م. وكانت الأمة المصرية أول من عين حدود وطنه, من حلفا حتي رفح, وكانت حمايتها هي المهمة المقدسة للمصريين. ويسجل سليم حسن في موسوعة مصر القديمة أن لوحة سمنة الثانية- قرب حلفا- تعد من أهم ما تركه لنا قدماء المصريين في كل عصورهم, ونقرأ في نقوشها ما كتبه سنوسرت الثالث فرعون مصر, يقول: لست بالرجل الذي يرضي لبه بالتقاعس عندما يعتدي عليه.. والرجل الذي يركن إلي الدعة بعد الهجوم عليه يقوي قلب العدو.. ومن يرتد وهو علي الحدود جبان حقا.. وكل من يتخلي عنها ولا يحارب دفاعا عن سلامتها, فليس ابني ولم يولد من ظهري!! وينسي من يستخفون بقدر مصر ولا يرونها سوي ولاية تابعة لدولة خلافة, ويريدون طمس هوية الأمة المصرية كما لو أن رفع رايتها يناقض الإسلام, أن مصر هي الدولة الوحيدة التي ذكرت في القرآن الكريم خمس مرات باسمها, وفي ثلاثة وعشرين موضعا أو أكثر بشكل غير مباشر. وفي تحليل اسم مصر ومترادفاته القديمة, تكاد الآراء تجمع علي اعتباره لفظا ساميا أطلقه جيران مصر يحمل معاني الحدود والحواجز والأسوار وصفات الحصانة والحماية والتمدين. وتبدو مثل هذه التسمية مفهومة, حيث شيد المصريون الحصون والأسوار لحماية حدودها, وهو ما جسد صورة مصر في عيون جيرانها. وقد كانت مصر في عيون المصريين التربة الخصبة والغرين الدسم والزرع الكثيف, فأطلق أجدادهم الأوائل عليها إسم كيمة بمعني أرضنا السوداء والسمراء والخمرية, وإسم تاوي بمعني الأرضين أي أرض الصعيد وأرض الدلتا! وأضفي أدباؤهم عليها نعوتا شعرية فوصفوها بأنها وجاة بمعني المحروسة! وقد ردد العالم الخارجي إسم مصر ومترادفاته, وقد يكون صورة للكلمة المصرية القديمة مجر, التي تعني البلد المكنون, حيث أدي حرف الجيم في الهيروغليفية أغراض حرف الصاد; واسم آجبي ومترادفاته, بمعني النيل وربما الأرض المغمورة بالفيضان, علي نحو ما عبر الإغريق باسم' آيجوبتوس' عن النيل وأرض النيل معا. وقد اعتبر المصريون القدماء أنفسهم أمة قائمة بذاتها, ونسبوا أنفسهم إلي بلدهم, فقالوا إنهم كيمتيو أي أهل كيمة, وردد أدباؤهم أن شعبهم هو الشعب النبيل وشعب الإله!! وأطلقوا علي أنفسهم اسم رمث بمعني الناس, وأوشكوا أن يقصروا هذه التسمية علي أنفسهم, وكأن غيرهم من الخلق أقل إنسانية منهم!! ولم يكن ذلك غريبا بعد ما لمسوه من رقي حضارتهم عن حضارات الشعوب المحيطة بهم, كما لم يكن غريبا عن منطق بقية الأمم التي عاصرتهم وأعقبتهم في الزمن. فقد إعتقد أهل بلاد النهرين مثل إعتقادهم في عهود قوتهم, واعتبر الإغريق والرومان كل من عداهم برابرة, وزعم العبرانيون أنهم شعب الله المختار!! ولم تكن تسمية فرعون وفراعنة تدل علي جنس بعينه, حيث فرعون بصيغته المصرية القديمة برعو عبارة تعني البيت العظيم, وكانت عبارة أشار المصريون بها منذ الدولة القديمة إلي قصور فراعنتهم التي تركزت فيها السلطات العليا لدولتهم, ثم رمزوا باللقب إلي ملوكهم منذ دولتهم الحديثة وأصبحوا يقولون برعو خرج وحارب وانتصر! وشيئا فشيئا إعتاد المصريون وجيرانهم علي أن يطلقوا لقب برعو- وصيغة العربية فرعون- بعد إضافة حرف النون, علي كل ملك مصري. ويمكن تفسير منطق قدماء المصريين بمنطق الأتراك العثمانيين, الذين سموا قصر السلطنة والسلطان نفسه باسم الباب العالي, وبمنطق الإشارة للبيت الأبيض بينما المقصود هو الرؤساء الأمريكيون المقيمون فيه. وفي دعوتي لأن يصدر الدستور باسم الأمة المصرية أنطلق من حقيقة أكدها أساتذة علم المصريات وعلم الإنسان, وهي أن المصريين المعاصرين مسلمين ومسيحيين هم من حيث الأساس مصريو عصر الأسرات, وسواء حين آمنت بالمسيحية أو حين آمنت بالإسلام, لم يكن من نزلوا مصر عوامل تغيير في قوميتها, وإن تغيرت لغتها وديانتها. وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم