منذ أيام قليلة مرت الذكرى ال 42 لكوكب الشرق أم كلثوم، ورغم كل هذه السنوات ما زالت ملء الأسماع، بل أتحدى أن تمشى فى أى من شوارع القاهرة ولا ترق أذناك لصوت « ثومة» وسط الزحام والضجيج فى أى حارة أو زقاق أو بين أكوام البضائع المكتظة على الرصيف، ربما لأن هذه السيدة العظيمة قد أحبت مصربغير حدود، فسكنت ذائقة أبنائها على مر الأيام بغير حدود أيضا كنوع من العرفان بالجميل، ووفاء لمعلمة الرومانسية والوطنية ، ولعل هذا الوفاء يبدو واضحا جليا فى كل حديث لأم كلثوم من خلال هتافات المحبين من الجمهور، ففى المغرب وقفت يوما من فرط هذا الحب متسائلة: « معقول كل هذا الحب لمصر، وكل هذا الهتاف من أجل مصر، وليس من أجلي»، وعلى مسرح الأولمبيا يزداد عجبها قائلة: « أنا مجرد مواطنة مصرية، لم أعمل شيئا استحق عليه كل هذا النجاح، إن بلدى هى صاحبة الفضل الأول فى نجاحي»، وهكذا أيضا تقول فى باريس، وفى السودان، وفى ليبيا، وفى لبنان، وتونس، فى كل بلد خارج الحدود. فى كل عاصمة كانت تعلن أنها عظيمة لأن شعبها عظيم، ساحرة لأن بلدها ساحر، تكافح بصوتها لأن بلدها يكافح بسلاحه، كانت تضرب أم كلثوم المثل فى سلوكها كفرد عادي، تراجع صوتها إلى مجرد وسيلة نحو هدف أكبر، تعبئة العواطف بالتضحية والفداء، وتعبئة الخزائن بالنقود، وتعبئة البنادق بالرصاص، من الآن فصاعدا سوف تغنى أم كلثوم ولكن لصالح تبرعات إزالة آثار العدوان، أو لصالح تعمير مدن القناة، أو لأى عمل يخفف عن بلدها آلام الهزيمة ويسهم فى جهود النصر. ومن المواقف المنسية لأم كلثوم، وأيضا لصحفيى الأهرام، والتى نذكرها لأول مرة فى ذكرى رحيلها ال 42 ، هو تبرع صحفيى الأهرام بمبلغ « 1240 جنيها» عيديات لأبناء المهجرين، ولهذا الموقف قصة ... كانت سيدة الغناء العربى أم كلثوم صديقة لكثير من كتاب الأهرام، خاصة بعد أن ساندت الجريدة الست فى بداية مشوارها، ونشرت كثيرا من أخبارها الفنية المتعلقة بحفلاتها وأفلامها السينمائية، ووقفت بجوارها فى حربها ضد الخلاعة التى كانت مسيطرة على الغناء المصرى فى بداية القرن، كما كتبت عنها عندما حصلت على «نيشان الكمال» من الملك فاروق الأول، ملك مصر والسودان عام 1944، لهذا كانت الراحلة تعتبر الأهرام جريدتها الأولي، لهذا لم يكن غريبا حضورها لمقر جريدة الأهرام عام 1962 للاحتفال بالعيد الخمسين للكاتب نجيب محفوظ الذى حضره مجموعة كبيرة من الكتاب والصحافيين، فى مقدمتهم «محمد حسنين هيكل رئيس التحرير، توفيق الحكيم، عائشة عبدالرحمن» وكبار صحفيى الأهرام، ومحرريها. ولم تقتصر زيارتها على هذه المرة ففى شتاء عام 1970 حضرت لمكتب الكاتب الكبير توفيق الحكيم، ويصف كاتبنا الكبير كمال الملاخ هذه الزيارة التى حضرها قائلا: زارت كوكب الشرق أم كلثوم الكاتب الكبير توفيق الحكيم فى مكتبه فتهلل وجهه، وترك مقعده ووقف محييا لهذه المفاجأة، ومرحبا بها وقال لها: « دى زيارة حلوة، يا سلام أيه المفاجأة الحلوة دي، اتفضلي»، وجلست أم كلثوم مبتسمة، وحاول توفيق الحكيم بعد أن جلس واضعا أصبعين من كفه اليسرى تحت خده مبتسما بشفتيه، مستغربا بعينيه، كانت ملامحه كلها تعكس أن عقله يفكر بسرعة صاروخية عن سبب زيارتها المباغتة؟! . ثم يبتسم من جديد كأنه يخفى أن حساباته الإلكترونية لم تصل إلى جوهر السبب بعد أن قلبت كل الاحتمالات! ثم تمتم بصوت مسموع : حاجة عظيمة والله خطوة عزيزة .. مش كده ولا أيه؟ وبعد أن فطنت أم كلثوم لحيرة الحكيم قالت: «باختصار كده أنا بجمع تبرعات نهديها عيديات لأبناء المهجرين فى العيد ده، وكل سنة وأنت طيب». فرد عليها الحكيم بقلق وخوف: مهو احنا طيبين؟ مش كده ولا ايه؟ وبقلق أكثر قال لها : عاوزة ايه يا ست؟! فردت عليه متساءلة: حتتبرع بكام يا توفيق؟! فقال : بس يعنى ...... مهو بأه ... أصل الحكاية! فردت قائلة: مهو أنا مش حا أطلع من هنا إلا لما تطلع المحفظة؟! الحكيم: بس لزوم المحفظة ايه .. أصل ... بس ... أصل الحكاية شوفى يعنى حتبرع بجنيه واحد أم كلثوم: إزاى بس ده؟ توفيق الحكيم يتبرع بجنيه، هو ده يصح؟ الحكيم: يصح يا ست والله يصح، طيب اتنين جنيه .. مهو مش أكتر من كده؟ ويمد توفيق الحكيم ذراعه ويضعه فى جيب سترته الداخلى يخرج المحفظة « لونها يدل على عمرها المديد»، وفى حرص يفتحها، وتساعده أم كلثوم فى إخراج ما يمكن، وبعد مشادة فى حوار لطيف «هكذا يصف الملاخ المقابلة فى « الأهرام» يخرج الحكيم كل ما فى المحفظة، فتجد فيها ثومه 7 جنيهات وأربعة قروش، فأخذت أم كلثوم السبعة جنيهات وتركت له الفكة ليعود بها إلى منزله. فقال لها الحكيم: منك لله خلتينا متبرعين على آخر الزمن! وتبتسم كوكب الشرق ويتدخل الملاخ فى الحوار ويسأل توفيق الحكيم عن أول مرة تبرع فيها؟ فترد أم كلثوم ضاحكة وتؤكد: إن هذه هى المرة الأولى والأخيرة. لكن توفيق الحكيم يصحح لها بأنها المرة الثانية ويقول للملاخ: أول مرة كانت منذ 20 سنة عندما تبرعت بخمسة جنيهات أخذتهم الست أم كلثوم لمعهد الموسيقى العربية، مش فاكرة التبرع ده ولا أيه؟. وتطلب أم كلثوم من الحكيم والملاخ مصاحبتها فى النزول للدور الرابع فى الجريدة وجمع تبرعات من باقى صحفيى المؤسسة، وبالفعل ينزل معها الحكيم وهو سعيد والنشوة فى عينيه وهو يرى كبار وصغار الصحافيين يدفعون ما معهم لأم كلثوم التى جمعت فى النهاية 1240 جنيها.