نشرت مقالا منذ عدة أسابيع عن «الخبير الاقتصادي»، ولا أريد أن أقع فى المحظور، وأتحدث مثله بإبداء القول الفصل فى الاقتصاد. فالاقتصاد يتناول جوانب متعددة من الحياة، يتعلق بعضها بالحاضر والبعض الآخر بالمستقبل، ويؤثر فى مختلف أوساط الناس بأشكال مختلفة، وفقا لظروف كل منهم. وأود أن أذكر فى هذا المقال ببعض المبادئ والمفاهيم المستقرة فى هذا البلد. 1- لا توجد هدايا مجانية فى الاقتصاد: الدرس الأول فى الاقتصاد هو أنه على حين أن الحاجات البشرية غير محدودة، فإن الموارد المتاحة لإشباعها محدودة. ويترتب على هذه الحقيقة أمران مرتبطان ببعضهما، الأول هو أنه لا يمكن إشباع كل الحاجات بل لابد من اختيار البعض وتأجيل البعض الآخر للمستقبل، والأمر الثانى – هو نتيجة لما تقدم – هو أن القرار بإشباع بعض الحاجات يعنى فى الوقت نفسه التضحية بحاجات أخرى وتأجيل إشباعها إلى فترة مقبلة فلكل شيء، فى الاقتصاد، تكلفة، وهكذا لا توجد هدايا مجانية فى الاقتصاد. ومع ذلك، فهناك حالات نجد فيها أفرادًا أو حتى دولًا تحقق بعض المنافع دون تضحية بعمل أو رأسمال أو فكر، وهو ما يطلق عليه الريع. وقد كان الريع دائما مصدر قلق للاقتصاديين، لأن صاحبه يحقق منافع دون تكلفة من عمل أو اختراع أو تقديم رأسمال، وإنما فقط اعتمادا على المصادفة أو الظروف المناسبة، وهو ما يطلق عليه اصطلاح الاقتصاد الريعي. 2- التخصص والتبادل: إذا كان لابد من العمل والجهد والمغامرة لاستمرار الحياة، فقد اكتشف معظم المجتمعات منذ وقت مبكر، أهمية التخصص وتقسيم العمل لزيادة الكفاءة الإنتاجية. فالأفراد، وكذا المجتمعات يختلفون فى القدرات والإمكانات المتاحة، مما أدى إلى ضرورة التخصص وتقسيم العمل بما يتفق مع الموهبة والخبرة وظروف المكان والزمان. وهكذا تتخصص الجماعات والأفراد فيما تتمتع فيه من مزايا نسبية. فقد تتميز دولة على أخرى أو حتى على جميع الدول الأخرى بمزايا إنتاجية فى كل شيء، ومع ذلك فإنها تجد نفسها تحقق مزايا أكبر بالتخصص فيما تتمتع به من مزايا نسبية، وأن تحصل على باقى السلع والخدمات من دول أخري. وما يصلح للدولة يصلح للأفراد أيضا. فقد تجيد الزوجة أعمال المطبخ، ولكنها أيضا طبيبة متميزة فى الطب، فهنا من مصلحتها – ومصلحة المجتمع – أن تتخصص فى الطب وتعتمد على طباخ للقيام بأعمال إعداد الطعام. ولذلك، فإن التجارة الدولية تصلح لجميع الدول والانغلاق على النفس يضر الجميع. ومع وجود التخصص وتقسيم العمل تقوم الحاجة إلى التجارة والتبادل. وقد بدأت أشكال التبادل فى البداية على نحو بدائى يقوم على المقايضة، ولم يلبث أن تطلب الأمر ظهور النقود والأدوات المالية لتيسير التبادل وزيادة حجمه. 3- الاقتصاد النقدى والمالي: المقايضة هى الصورة البدائية للتبادل، حيث يبادل الفرد آخر بما لديه من فائض فى سلعة مقابل الحصول على سلعة أخرى من الطرف الآخر. ومشكلة المقايضة كوسيلة بدائية للتبادل هى أنها تفترض أن تتوافر الرغبات عند المتعاملين، فما يزيد من حاجتك من سلعة تملكها، يحتاجها الطرف الآخر، وأن تكون لديه بالمقابل سلعة أنت تحتاج إليها. وهذا التوافق فى الرغبات قل أن يتحقق فى غير المجتمعات البدائية، حيث تقوم الجماعة بعرض ما يفيض من إنتاجها الزراعى مثلا، مقابل ما تحصل عليه من جماعة أخرى تعيش بالقرب من البحار فنقدم لها الأسماك مثلا. ومن هنا جاء اكتشاف النقود قفزة فى التاريخ الاقتصادى البشري. فهناك بعض السلع التى تمتعت بنوع من القبول العام فى التبادل مثل الماشية أو بعض أنواع القواقع أو بعض المعادن، والتى أصبحت تقبل فى التبادل، أى أصبح لها مفهوم النقود. فأنت تقبل التنازع عن سلعتك مقابل هذه النقود السلعية ليس فقط لأنك تحتاج إليها، وإنما لأنك قادر على تقديمها لمشتر آخر والحصول منه على السلعة التى تريد استهلاكها. وهكذا لم تعد النقود مجرد وسيط للتبادل بين السلع، وإنما أصبحت مقياسا للقيم، فأنت تقدر قيمة سلعتك بكذا عدد من الماشية أو كذا وزن من المعادن. وأخيراً أصبحت انفرادا مخزنا للقيم، فقد تتنازل عن سلعتك اليوم مقابل هذه النقود، ليس لاستخدامها فى الفترة نفسها للحصول على سلع أخري، بل لاستخدامها فى المستقبل القريب أو البعيد. وهذا ما أطلق عليه دور النقود «كمخزن للقيم»، ومن هنا أصبحت النقود هى همزة الوصل بين الحاضر والمستقبل. وأخطر ما تمثله النقود من تطور ليس فقط فى أنها تسهل المبادلات وتقيس القيم، بل إنها تعبر عن قدرة الإنسان على زيادة قدراته، عن طريق استخدام الرموز. فكما نجح الإنسان فى اختراع اللغة، التى لا تعدو أن تكون مجموعة من الرموز فى شكل أصوات متفق عليها، ولكنها ساعدت على التفاهم بين المجتمعات وتحقيق التقدم. وكذا الأمر مع الكتابة، التى لا تعدو أن تكون مجرد رموز صوتية. والنقود هى أيضا نوع من الرموز للقيم وعلاقتها بالحاضر والمستقبل. ومع ظهور النقود - كحق على السلع المتاحة للبيع فى الحاضر والمستقبل – ظهرت الأوراق المالية الأخرى مثل الأسهم والسندات وغيرها من الرموز المالية والتى تسهل تداول الأصول فى الحاضر والمستقبل. فالسند هو حق للدائن فى استيفاء النقود فى وقت لاحق، والسهم هو حق فى ملكية الشركة وقابل للتداول، وهكذا. ويمكن تبادل هذه الحقوق بين الأفراد فى البورصات. وهكذا زادت المبادلات، وتوافرت مزايا للادخار والاستثمار، على ما سنشير إليه. ولكن هذا لم يمنع أيضا من ظهور المبالغات وأحيانا المغامرات بل والغش، الأمر الذى أدى إلى ظهور الأزمات المالية عندما نفتقد الرقابة والضوابط اللازمة لمنع الانحراف. 4- الاقتصاد والزمن: الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يتعامل مع الزمن لتغيير المستقبل عن الحاضر. حقا، تعيش الكائنات الأخرى من خلال الزمن أيضا، ويتغير شكلها من مولود إلى كهل، ولكن ذلك يتم من خلال دورة بيولوجية تكاد تكون ثابتة بلا تغيير، تنتقل من جيل إلى آخر، وبالتالى بلا حضارة أو تاريخ. بل هناك بعض الكائنات التى تحضر للمستقبل بتخزين الغذاء لفترات الجفاف أو البرد الشديد. ولكن ذلك يتم بشكل تلقائى ميكانيكي، وكأنه خصائص بيولوجية أكثر منه تغييراً تاريخيا وحضاريا. وهذا الادخار هو فى حقيقته استهلاك مؤجل. أما الإنسان، فإنه وحده يعد لمستقبل مختلف، وهو يتعلم من تجربته الماضية ويطور فيها. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذى يتعلم من تجربته السابقة. وما يدخره للمستقبل لا يعد للاستهلاك المستقبلى بل للاستثمار بتشكيل أدوات وآلات جديدة تزيد من كفاءته الإنتاجية. ومن هنا بدأ عصر تصنيع الأدوات ثم الآلات، لكى يصبح الإنسان باستخدامها أكثر قدرة على الإنتاج فى المستقبل. فالاستثمار ليس مجرد تأجيل للاستهلاك، بقدر ما هو بناء جديد وتصنيع لزيادة قدراته الإنتاجية (الاستثمار). وقد نجح الإنسان، ربما وحده، باعتباره الكائن الصانع. فالإنسان وحده – دون الكائنات – ذو حضارة وتقدم، لأنه يدخر ليس للاستهلاك غداً، وإنما لتصنيع أدوات وآلات تزيد من قدرته الإنتاجية. وإذا كان الزمن هو الذى يربط الادخار بالاستثمار، فإن تسهيل العلاقة بين الأمرين يتطلب وجود أدوات تساعد على توفير المدخرات اللازمة للاستثمار، ووضعها فى يد من يستطيع استثمارها، فليس من الضرورى أن يكون الشخص القادر على الادخار هو نفسه المؤهل للقيام بالاستثمار وتصنيع الأدوات والآلات اللازمة لذلك. ومن هنا ضرورة توفير وسيلة لنقل المدخرات من المدخرين لوضعها تحت تصرف المستثمرين القادرين على تصنيع الأدوات والآلات والمبانى والأجهزة اللازمة للإنتاج الجديد، مع توفير عائد مناسب لصاحب هذه المدخرات. وهذا هو ما تقوم به النقود والأدوات المالية من أسهم وسندات وأدوات مالية متعددة تتفق مع احتياجات المدخرين ومع متطلبات المستثمرين. وهكذا، جاءت الأسواق النقدية والمالية كوسيط ضرورى ومناسب للتلاقى بين المدخرين والمستثمرين. ومع زيادة الادخار والاستثمار تتقدم الدول وتزيد قدراتها الإنتاجية. 5- الحجم الأمثل: فى الحساب والرياضيات هناك ما هو أكبر وما هو أصغر، ولا حدود لأى منها، فأنت تستطيع أن تزيد الأرقام إلى ما لا نهاية، كما أن تجعلها تتضاءل حتى تصبح سلبية بشكل متزايد وبلا نهاية أيضا. أما الاقتصاد، فإنه يعرف «الحجم الأمثل». فإذا كانت «المنفعة» و «التكلفة» هما أهم مظاهر الحساب الاقتصادي، فإننا نلاحظ أن منفعة السلعة قد تزيد مع زيادة توافرها، ولكن إلى حين، فبعد حد معين تبدأ المنفعة فى التناقص. وبالمثل، فإذا كانت الإنتاجية تزيد مع التوسع وزيادة الخبرة. ولكن هناك أيضا حدود. فالتكلفة تتزايد بعد حد معين. ومعنى ذلك أن هناك «حجما أمثل» لكل شئ. وهذا الحجم الأمثل ليس صيغة مطلقة، فهو يتوقف على تغير أذواق المستهلكين وعلى التقدم التكنولوجى المتحقق. 6- السلع الخاصة والسلع العامة: «السلعة» هى كل ما يشبع الحاجة، سواء فى شكل سلعة مادية أو خدمة غير مادية. ولكن هذه السلع والخدمات تختلف، فبعضها إذا توافر لأحد، فإنه ينتفع بها وحده دون الآخرين، وهذه هى «السلع الخاصة» التى تخضع لمبدأ الاقتصار، بمعنى أن منفعتها تعود على صاحبها. ولكن هناك «سلعا» لا تتحقق منفعتها إلا إذا أفاد منها الجميع، وهى ما يطلق عليها «السلع العامة». فرغيف العيش هو سلعة خاصة، لأنك إذا تناولته بالطعام فقد يشبعك أنت، ولكن لا يشبع الآخرين. وعلى العكس فإن خدمة الأمن، إذا لم تتحقق للجميع، فإن الشعور بالأمن يختل. ولذلك فإن الأمن سلعة عامة، ينبغى أن تؤدى إلى الجميع. وماذا عن «التعليم» مثلا، هل سلعة خاصة أم «سلعة عامة»؟ الحقيقة أن التعليم هو فى نفس الوقت «سلعة خاصة» لأن المستفيد الرئيس منه هو المتعلم نفسه، ولكنه أيضا «سلعة عامة» لأن مجتمعا متعلما أكثر كفاءة وقدرة من مجتمع غير متعلم. وغالبا ما تتضمن معظم السلع، خليطا بدرجات متفاوتة من السلعة الخاصة التى يفيد منها المستهلك المباشر، ولكن أيضا يفيد منها المجتمع بدرجات مختلفة بشكل غير مباشر (سلع عامة). 7- المنافسة والتعاون: هناك من يعتقد أن اقتصاد السوق يقوم على المنافسة فقط. والصحيح هو أن المنافسة ضرورية لاقتصاد السوق. ولكن المنافسة، إذا نجحت فى مجال «السلع الخاصة»، فإنها تفشل قطعا فى مجال «السلع العامة»، بل وحتى السوق، فإن المنافسة وحدها لا تكفي، ويتطلب الأمر وضع القيود والضوابط لحماية سلامة المستهلك وصحته.. إلخ. كذلك، فإنه إذا كان الاقتصاد عنصرا مهما فى الحياة الاجتماعية، فهناك عناصر أخرى لا تقل أهمية. فالكفاءة فى الإنتاج مطلوبة ومفيدة، ولكن العدالة وحسن توزيع الموارد أمر لا يقل أهمية. وبالمثل، فإذا كان الاقتصاد مهما وضروريا لاستمرار الحياة وتقدمها، فلا ننسى أن الشرط الأول لبقاء الحياة هو استقرار الأمن. فدون أمن لا اقتصاد ولا سياسة. هذه بعض الاعتبارات التى يجب مراعاتها فى القرار الاقتصادي. فهناك جوانب متعددة لكل قرار، بعضها اقتصادي، وأخر أمني، وثالث متعلق بالعدالة والإنصاف.. وهكذا. كذلك وهناك دائما مقايضة بين الحاضر والمستقبل. وما قد يكون مفيدا فى المدة القصيرة قد يصبح عبئا فى المدة الطويلة. وطالما يتعامل الاقتصاد مع الزمن، فإن احتمالات المستقبل قد تكون مفاجئة وغير متوقعة. وفى جميع الأحوال، فإن أى قرار اقتصادى – أيا كان شكله. سوف تكون له آثار إيجابية لفئة أكثر مما هو مفيد لفئة أو فئات أخري، بل ربما يكون ضارا بها. فالقرار الاقتصادى يتطلب حكمة كبيرة ومراعاة للعديد من الاعتبارات المتعارضة فى المدة القصيرة والمدة الطويلة. ومع ذلك، لابد من اتخاذ القرار وتحمل تبعاته، فليس هناك أسوأ من الجمود والحيرة وعدم اتخاذ القرار. .والله أعلم... لمزيد من مقالات د. حازم الببلاوي