تطورات عسكرية وسياسية مهمة ومتلاحقة تجري في سوريا عقب مؤتمر آستانا، الذي رعته روسيا وتركيا وإيران، فالائتلاف السوري المعارض أعلن تخليه عن تأييد جبهة النصرة، وأدان هجماتها على عدد من الفصائل المشاركة في مؤتمر آستانا، ووصف الائتلاف هجمات النصرة بأنها أعمال إرهابية. وكانت جبهة النصرة قد استشعرت الخطر منذ بدء التحضير لمؤتمر آستانا، الذي وضع جبهة النصرة إلى جانب داعش في قائمة الإرهاب، ودعا إلى فصل المعارضة المسلحة عن الجبهة، وفي المقابل أفتت جبهة النصرة بخيانة وتكفير من يشارك في مؤتمر آستانا، وشنت الجبهة هجوما استباقيا على الجماعات المشاركة في مؤتمر آستانا، وهاجم مسلحو النصرة المقر الرئيسي للجبهة الشامية، واستولوا على مخازن أسلحتها، وشنوا هجوما آخر على لواء صقور الشام، وأرغمته على إعلان التبرؤ من مؤتمر آستانا، بينما شهد جبل الزاوية أعنف المعارك بين جبهة النصرة وجبهة أحرار الشام أكبر فصائل الجماعات المسلحة، والتي كانت تقف على الحياد من مؤتمر آستانا، وهي خليط من جماعة الإخوان والسلفيين، وسبق أن أجرت مفاوضات للاندماج مع جبهة النصرة، لكن الضغوط التركية على«أحرار الشام» جعلتها تبتعد عن جبهة النصرة، التي خشيت من انقلاب أحرار الشام عليها، وبادرت بالهجوم على مواقع لها داخل إدلب، وحتى قائد «جيش الإسلام».في الوقت نفسه استطاع الجيش السوري إيقاف هجوم داعش على مدينة ومطار دير الزور، وهو الهجوم الذي سبق انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي السابق أوباما، والذي كان يأمل في أن يبسط تنظيم داعش سيطرته على دير الزور، لتتمكن قوات من العشائر المدعومة من الولاياتالمتحدة من التقدم إليها، وإنشاء منطقتي نفوذ أمريكية، الأولى كردية في شمال شرق سوريا، تليها منطقة للعشائر السنية، عمودها الفقري من قبيلة البكارة، وتسيطر على محافظة دير الزور، وتفصل العراق عن سوريا، لكن الضربات الجوية الروسية والسورية، وعمليات إسقاط مظلي لمقاتلين من نخبة الجيش السوري والقوات الحليفة أحبطت آخر معارك أوباما، وبدأ المعارض السوري السابق نواف البشير شيخ عشيرة البكارة في تشكيل قوة من أبناءالعشيرة، تعمل تحت إمرة الجيش السوري لتحرير ريف دير الزور، وهو ما سيؤدي إلى تغيير ملموس في موازين القوى شرق سوريا، التي ستميل أكثر لصالح الجيش السوري عندما ينتهي الجيش العراقي من تحرير الموصل، ويستكمل هجومه على داعش غرب الموصل والأنبار، ويصبح داعش بين مطرقة الجيش العراقي وسندان الجيش السوري وحلفائه، وقد بدأ الجيش السوري هجوما واسعا على شرق وشمال حلب، وحرر عددا كبيرا من البلدات، واقترب من مشارف مدينة الباب الإستراتيجية.أما في ريف دمشق فقد استكمل الجيش السوري سيطرته على وادي بردى، ونبع الفيجة المغذي للعاصمة، وأقدم 2600 مسلح على تسليم أسلحتهم وتسوية أوضاعهم. هذه التطورات العسكرية المهمة على أراضي سوريا تعكس المتغيرات السياسية التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية، والنتائج العسكرية لمعركة حلب الكبرى، وأهم هذه المتغيرات هو ابتعاد أردوغان عن التحالف الأمريكي ودول الخليج، حتى إن البعض وصفه بأنه غدر بهم، وانفرد بإدارة الجماعات المسلحة في سوريا لمصالحه، وتخلى عن شرط تنحي الرئيس السوري، بل وصف الأتراك بقاء الرئيس السوري بالضروري.تبدل المواقف لم يقتصر على الرئيس التركي أردوغان فقط، فقد شملت التغييرات مواقف كل من الولاياتالمتحدة وأوروبا والأردن وحتى بعض دول الخليج، حيث تقدمت الكويت بمبادرة جديدة للحوار بين دول الخليج وإيران، بهدف التوصل إلى حلول للأزمات في المنطقة، وعلى رأسها الأزمة السورية، وتأتي هذه المبادرة في توقيت مهم، فالحرب على سوريا خاسرة، ولن تنجح الجماعات المسلحة في إسقاط الدولة، والرئيس الأمريكي الجديد لا يبدو متحمسا لاستكمال ما بدأه سابقه أوباما وهيلاري كلينتون، وأردوغان يغرد وحده بعيدا عن حلفاء الأمس، ولا تبدو إسرائيل مهيأة للمشاركة في الحرب على سوريا بشكل مباشر، فقادتها أذكى من أن يورطوا أنفسهم في مستنقع يصعب الخروج منه أو التنبؤ بتقلباته، وأسلوب الحرب في هذه المعارك لا يناسبها، وتفضل أن تدعم الجماعات التكفيرية لتقوم بالدور المنوط بها لإنهاك الدولة السورية. أما تصريح الرئيس الأمريكي ترامب عن إقامة مناطق آمنة، والذي سارعت قطر وتركيا بتأييده، فأعتقد أن ترامب لم يقصد به منطقة آمنة كالتي كان يقصدها أردوغان، لأن ترامب قالها في سياق البحث عن مكان آمن للنازحين من سوريا، ولا يريد أن يقيموا داخل أوروبا، ويطلب إعادتهم من حيث أتوا، بتوفير مكان آمن لهم. تبدو المبادرة الكويتية بالحوار الخليجي مع إيران خطوة منسجمة مع المتغيرات السياسية والعسكرية، وفرصة لإيجاد مخرج سياسي لحروب وأزمات تكاد تبتلع ما تبقى من أموال ودماء شعوب المنطقة. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد