كتاب مهم للدكتور «سامى بخيت» يعد مرجعا شاملاً للثقافة الشعبية عبر العصور التى مرت على مصر، وهو دعوة إلى الحفاظ على الحرف الشعبية الآخذة فى الاندثار . مؤكداً أن الفن الشعبى المصرى يمثل محوراً مهماً، وطريقة حياة ذات طقوس روحانية مميزة، جذبت اهتمام شتى الفنانين التشكيليين على اختلاف جنسياتهم، وبخاصة فنانى الغرب بعد عدائهم للجانب الروحي، كما تكمن أهمية هذا الفن فى كونه مستقيا من منابع روحانية أصلية منها الفن الإسلامى والقرآن الكريم والفن القبطى والفن المصرى القديم، لذا يمثل الفن الشعبى المصرى روحاً متصلة بين طبقات الشعب فى حدود دور هذا الفن ونوعه، والذى يمثل محصلة انتقائية لكل الفنون فى شتى العصور التى مرت بها البلاد، حيث ترجع جذور التصوير الشعبى فى مصر الى القرون الأولى للتاريخ الميلادى، أى مع بداية تمرد الشعب المصرى على كل ما يمت إلى الأساليب الروحانية، واستمر هذا الفن الشعبى محتفظاً بتقاليده القبطية حتى العصر المملوكى، حيث تكونت له شخصية تغلب عليها مظاهر الطابع الإسلامى والعربى. وتزخر مفردات الفن الشعبى فى مصر بمجموعات هائلة من الرموز ذات الدلالات والعلامات والرسوم والاشكال والنصوص والكتابات، والتى تحوى العديد من القيم التشكيلية والتعبيرية. فالمفردات التشكيلية فى الفن الشعبى لها عقيدة فى الوجدان الشعبى، وتمثل هذه المفردات مصدراً مهما من مصادر الرؤية لدى الفنان التشكيلى المصرى عبر عصور تلك المفردات. ان هذه المفردات بدائية فطرية تفتقر إلى حنكة الرسام، والى قدرة المُلون العارف بالنسب وقواعد المنظور، ولكنها معبرة موجبة مثلها مثل مفردات الوشم التى استلهمها الفنان المصرى المعاصر لما فيها من فطرة ورمزية معبرة، ومن ثم فإن هذه التصورات والرؤى، وان كانت الخرافة مصدرها، إلا أنها كانت بالنسبة للاتجاهات الفنية الحديثة على جانب كبير من الاهمية، فيما بدا من مظاهر تمثلت فى اعمالهم الفنية المستلهمة من طبيعة الرموز الطوطمية والمفردات السحرية، واصطلح عليه عند الفنانين ب «الصوفية البدائية» فى الفن. والفنان الشعبى فى ابسط تعريفاته .. هو وعاء الثقافة الفطرية النقية الذى يعبر عن آماله وأحلامه بالفطرة بعيداً عن التصنع والتزييف ... دون قيود تحكمه .. لذا جاءت الزخارف الشعبية معتمدة فى بنائها على وحدة الرمز المستقل غير المترابط فى وحدات جمالية متكاملة. فالرمز يمكن أن يكون شكلاً لطير يهواه الفنان، أو نباتاً يعتز به الناس، أو حيوانا محبوباً، او وحشاً تخشاه الجماعة. وقد تختلف رموز الفن الشعبى من بيئة ثقافية إلى أخرى، باستثناء بعض الرموز التى تشارك فيها جميع الشعوب والتى ترجع الى وحدة المصدر نتيجة القوافل الرحالة الخاصة بالبدو وحركاتهم داخل قارات العالم. والحرف الشعبية هى تعبير عن الروح الإنشائية فى صورة مادية تعبيراً يدخل السرور على الجنس البشرى حيث ان نمو الحرف فى المجتمع كان دليلاً على تهذيب الحس وهو محرك للإنسانية وعامل على نضجها، وهى صناعة تعتمد على المهارة اليدوية فى إنتاج سلع حرفية ذات جودة عالية. وهناك العديد من الحرف الشعبية المتوارثة منذ القدم وتحمل الكثير من الزخارف مثل حرفة صناعة عروسة المولد والفخار والحصير والخيام والسجاد وتشبيك الخمس أصابع من الخرز الأزرق والحلى وصناعة الأثاث والزجاج والمعادن. وبالنسبة لعهود خلافة وولاية حكام المسلمين فإن صناعة زجاج المشربيات وفن الأرابيسك كانت حرفاً يدوية رائجة وشائعة أيضا، والأرابيسك فن عربى إسلامى أصيل يعتمد على رشاقة الخط العربى واستخدام وحدات من النبات والأزهار والغصون فى تكوينات متعانقة حينا أو ممتدة فى تكوين تجريدى عن طريق حساسيته الفطرية وبما يحقق له فى عملة الرشاقة والاتزان. وحلِّيت المخطوطات العربية القديمة بالتصاوير الشعبية أو الرسوم الايضاحية، فمنذ القرون الاولى من العهد الاسلامى بدأت حركة التأليف والترجمة تنتثر فى مختلف الدول العربية بما فيها مصر، ونشط معها الاعتماد على الرسوم لتزيين وتوضيح محتويات تلك المخطوطات، منها كتاب ابن بطوطة فى القرن الرابع عشر الميلادى، وكتاب إبراهيم بن يعقوب فى القرن العاشر الميلادى، والاصطخرى فى القرن الحادى عشر، والإدريسى، ومخطوطه كليلة ودمنه لابن المقفع والأغانى لأبى الفرج الأصفهانى ومخطوطه دمعة الباكى لأبى فضل الله العمرى، وهناك مخطوطات مصورة فى علم الطب محفوظة بدار الكتب المصرية ومقامات الحريرى محفوظة بالمكتبة الأهلية فى باريس وهما مزداتان بالرسوم والصور. وتميزت رسوم هذه المخطوطات بالرسوم القريبة من الفسيفاء الإسلامية وأيضاً زخارف النسيج والخزف القبطي، والزخارف الفرعونية التى كانت موجودة على الفخار ابان عصر ما قبل الأسرات، إضافة إلى الخطوط العربية المحرفة او المتكررة او المتشابكة، وهناك مخطوط شعبى عن التنجيم يرجع تاريخه الى منتصف القرن السابع عشر. والكتابات المزخرفة هى الكتابات التى فيها بعض آيات القرآن الكريم أو بعض الأحاديث النبوية أو الأمثال الشعبية تطبع بألوان مختلفة وتحاط بما يشبه الإطار الزخرفى، وهذا التقليد فى تزيين الأماكن الشعبية متخذين من أشكال الخط وحدات زخرفة حتى تبدو بعض اللوحات كأنها تصور وجوها أنسانية أو حيوانية وكأنها وجوه تطل من خلف تلك الحروف واستخدم الفنان الشعبى ألواناً تحمل دلالات وتغيرات موثقة، فالأبيض رمز الصفاء والسلام، والأسود رمز الحزن، والأخضر استمرار الحياة، والأحمر رمز الخطر والدفء، والأصفر رمز النضج والسكون، والأزرق رمز اتقاء الحسد، والأزرق القاتم رمز القهر، والبنى رمز الصمود والتحدي، والأخضر الزرعى رمز الميلاد والعطاء. اما الرموز فهى تعبر وتستند للأسس النفسية (رموز وتعاويذ سحرية لكف الأذي، أو رموز لطلب الرزق، أو دينية أو فلكية أو معبرة عن الشجاعة ومن الصعب التخلى عن الفلسفة الرمزية، فهى وسيط وقربان نفسى تقرباً للمجهول، إما اتقاء لشره او التقرب منه او استجلاباً لمطلب معين يريد تحقيقه. وتعد الجداريات الشعبية بمثابة مشهد من حكاية، فالرسام الشعبى يقوم بدور مشابه للدور الذى يقوم به الراوى فالصورة تمثل نصاً بديهياً يتعارف عليه العامة وتردده وتحفظه. ومن أهم الموضوعات التى رسمت على الجدران (آدم وحواء وسفينة نوح وإبراهيم الخليل والنبى سليمان والهدهد والإسراء والمعراج والعذراء والسيد المسيح والمحمل) بجانب رسوم (الإبريق والنخلة والزير والسمكة والكف والبرص والسهم والسنبلة والديك والحمام وعصفور الجنة والسيف والقط والأسد والدائرة والمثلث والكعبة وحدوة الفرس والنجوم والسبوع). والكتاب زاخر بالموضوعات المتنوعة والمهمة وقد حرص الدكتور سامى بخيت أن يكون بحثه عميقاً ومتسعاً ومتخصصاً فى مجال الزخرفة لعدد من العصور المتعاقبة .. تحية لهذا الجهد المتميز.