استعرضنا فى المقال السابق حجم وآليات الفساد فى المشتريات الحكومية وكيفية استفادة البعض منها، ونعرج الآن لدراسة الآثار السلبية لاستشراء هذه العملية والتى تحدث عبر استخدام النفوذ السياسى أو الاقتصادى لبعض الاشخاص لتحقيق مجموعة من الأهداف يأتى على رأسها الشمول فى لائحة المشتريات المؤهلة للدخول فى المناقصات الحكومية، بغض النظر عن الاشتراطات القانونية المؤهلة لذلك. او الإسهام فى صياغة مواصفات فنية معينة تجعل الشركة هى الوحيدة القادرة على تقديم الخدمة، دون غيرها من الشركات المنافسة مما يمكن الشركة -متى كسبت العقد-من تضخيم تكلفة التنفيذ، أو تغيير النوعية المطلوبة.هذا فضلا عن الحصول على معلومات داخلية تساعد على تحقيق مكاسب مستقبلية مثل حصول كبار الموظفين على مخططات التنظيم الإدارى خلال الفترة المقبلة ويقومون بالإيعاز إلى بعض الأفراد بشراء الأراضى خارج كردون المدينة بأسعار زهيدة، وهم يعلمون أنها سترتفع مستقبلا، أو حين يسرب كبار الموظفين معلومات تتعلق بقرارات استيراد بعض السلع أو تصديرها كالرسوم الجمركية أو السياسة الضريبية وغيرهما. ويساعد على ذلك سوء استغلال واستخدام الاتحادات التجارية والصناعية بغية تحقيق أهداف مجموعة معينة من القائمين عليها، وتعزيز الممارسات الاحتكارية. وتتزايد عمليات انعدام الشفافية والفساد فى المشتريات الحكومية إذا توافرت مجموعة من الأمور والشروط منها، على سبيل المثال قصر توريد الخدمة على عدد صغير من الموردين أو الشركات، إذ انه كلما كان عدد الشركات قليلا أدى ذلك إلى زيادة احتمالية التواطؤ، والفساد فى العملية. ناهيك عن صعوبة الدخول أو الخروج من السوق عن طريق وضع العراقيل أمام مشاركة المجموع الأكبر من المنتجين فيما يعد بمثابة ستار حديدى يخدم مصلحة فئة محددة، هى التى تدرج ضمن قوائم الموردين، وحرمان الباقى من هذه العملية، وبالتالى عدم دخول موردين جدد. ويتم ذلك بعدة طرق، منها وضع اشتراطات معينة تستبعد فئة لا بأس بها من الموردين بغض النظر عن الضرورة الفنية لذلك، أو المغالاة فى مبالغ التأمين المالى للدخول فى المناقصة. وعلى الرغم من وجود ترسانة قانونية لتنظيم هذه العملية إلا أنها جميعا تعانى مشكلات عديدة، منها عدم وجود ضوابط أو شروط لتنظيم مشاركة القطاع الخاص، بالإضافة إلى غياب أسس التقييم التى تتفق مع طبيعة هذه المشروعات. جنبا الى جنب مع عدم توافر الإجراءات القانونية التى تنظم كيفية متابعة الالتزام بتنفيذ هذه العقود وتسوية المنازعات التى قد تنشأ عن هذه الأوضاع. هذا فضلا عن افتقار القطاعات الاقتصادية الحكومية إلى الخبرة الفنية والمالية والقانونية اللازمة لطرح تلك المشروعات على المستثمرين وتنظيم المشاركة. والاهم من كل ما سبق هو عدم إجراء الدراسات الواجبة لبعض المشروعات قبل طرحها للمناقصات العامة، وعدم الدقة فى وضع التصميمات والرسومات، وكذا عدم تحديد المدة الزمنية اللازمة لتنفيذ المشروع مما يؤدى إلى تعديل المشروع بعد إسناده والبدء فى تنفيذه، أو إضافة أعمال أخرى لم تتضمنها الرسومات الأساسية للمشروع الأمر الذى يترتب عليه أعباء مالية إضافية دون مبرر فضلا عن التأخر فى تنفيذ المشروع. يضاف إلى ما سبق قيام الأجهزة المعنية باستلام المشروعات رغم وجود بعض العيوب بها أو وجود ملاحظات فنية عليها تحول دون استخدامها أو الاستفادة منها الاستفادة الكاملة. او عدم إدراج بعض الأعمال الضرورية ضمن بنود العقود ومن ثم المغالاة فى أسعارها بعد ذلك. أو عدم تهيئة الموقع للعملية الاستثمارية مما يؤدى إلى تأخر التنفيذ وارتفاع التكلفة والبطء فى العملية (والامثلة على ذلك عديدة ويمكن الرجوع الى تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات عن ختاميات الموازنة العامة للدولة لمعرفة المزيد من التفاصيل). وهكذا يسهم الوضع الحالى فى تدنى كفاءة الاستثمارات العامة وإضعاف مستوى الجودة فى البنية التحتية العامة، وذلك بسبب الرشاوى التى تحد من الموارد المخصصة للاستثمار وتسيء توجيهها او تزيد من تكلفتها، بالإضافة إلى انتشار الوساطات والغش مما يؤدى إلى تدنى المشروعات العامة من جهة. وزيادة حجم المخزون السلعى من جهة أخرى، حيث تؤدى هذه العملية إلى شراء أصناف من السلع موجودة بالمخازن بالفعل بدلا من السحب من المخزون مما يؤدى إلى تكدس السلع بالمخازن وعدم الاستفادة منها. وهى أمور تؤثر بالسلب على مالية الدولة، خاصة ان هذه الأصول تتعرض للضياع وفقدان قيمتها سنة بعد أخرى. وعدم الاستفادة من بعض خطوط الإنتاج والمعدات والأجهزة والأثاثات المشتراة، بسبب عدم الانتهاء من الأعمال الإنشائية وتجهيز المكان الملائم لتركيبها وتشغيلها. وهكذا فان الفساد فى المشتريات الحكومية ينعكس بآثاره السلبية على المجتمع ككل، إذ تؤدى إلى فقدان الشفافية وتقليل المنافسة والحد من المتقدمين إلى العطاءات الحكومية، مما يزيد من تكاليف الحصول على الخدمة أو السلعة الحكومية، مع ما يؤديه ذلك من زيادات فى التكاليف والأعباء على المالية العامة للدولة.ومن ثم يعيق عملية النمو الاقتصادي. ويضر بمناخ الاستثمار وبيئة الأعمال. حيث يشوه عملية وضع السياسات على نطاق واسع وتقوض مصداقية الحكومة. كما أنه فى المستويات الدنيا للإدارة يمكن ان تمثل ضريبة إضافية على نشاط الأعمال وتعمل على تحويل الموارد بعيدا عن الخزانة العامة. كما أن سوء تنظيم الدخول فى المشاريع الحكومية الكبرى يؤدى إلى الارتفاع فى التكاليف، وهو لا يقلل فقط من حجم الاستثمارات الجديدة والقائمة وفاعليتها، بل يؤثر أيضا على الاستثمارات الأجنبية، مما ينعكس سلبا على النمو الاقتصادى بالبلاد. ويعد عقبة كئودا فى طريق التنمية المستدامة، حيث يسبب خسائر فادحة فى المال العام اللازم للإنفاق على بعض مجالات الإنفاق العام كالصحة والتعليم ولتخفيف الفقر، ومن ثم يرتبط بتراجع مؤشرات التنمية البشرية. كل هذه الأمور وغيرها توضح لنا بما لا يدع مجالا للشك مدى خطورة وتداعيات هذه المشكلة، خاصة ان آثارها لا تتوقف على الصعيد الاقتصادى فحسب، بل تمتد بآثارها لتشمل مختلف جوانب المجتمع سياسيا واجتماعيا وحضاريا وتحتاج هذه المسألة إلى وضع الحلول المناسبة لها (وهو ما سنتناوله فى المقال المقبل بإذن الله). لمزيد من مقالات عبدالفتاح الجبالى