أقصد هنا تلك الكائنات الصناعية الصغيرة، التى يتم تثبيتها داخل جسم الإنسان ونعم فإن لها ناد خاصا بها، تقتصر عضويته على رواد معينين، ممن ضاقت شرايينهم، أو انسدت، فعجز الدم عن التدفق فيها. ولقد صرت عضواً بنادى الدعامات منذ بداية الألفية الحالية. بدأت القصة عندما كنت محافظاً للأقصر، فوضعت خطة شاملة لتطوير المحافظة، كان من ضمن محاورها، إعادة فتح طريق الكباش، وهو ما يتطلب إزالة العديد من المبانى والمنازل، التى أقامها الأهالى فوق الطريق ذاته. فوفقاً للخطة الموضوعة، كانت هناك، عندئذ، منطقة محددة، يتعين البدء فى إزالة مبانيها، فى خلال الأسابيع اللاحقة، وكان لابد من شرح الموقف للأهالي. وآثرت أن أقوم أنا بهذه المهمة، وأن أشارك الأهالى فى جميع التفاصيل، بدءاً بما سيحدث، مروراً بالتعويضات والمساكن الجديدة التى سينتقل الأهالى إليها، وصولاً لأهمية تنفيذ هذا المشروع بالنسبة لمصر عامة، ولأهالى الأقصر خاصة. وكان يوم الجمعة، وذهبت للصلاة مع الأهالى حتى نتمكن من التباحث فى الأمر بعد الصلاة. وذهبت منفرداً، إلا من سكرتيرى الشخصي، لإثبات أخوية الجلسة، وليس أن السلطة جاءت لفرض واقع معين، إذ كانت العادة أن يتحرك المحافظ ومعه "جوقة" من وكلاء المحافظة ومديريها والعاملين بها. وكان الترحيب حاراً، كعادات أهل الصعيد. وما أن فرغنا من الصلاة، حتى بدأنا نتحاور لأشرح أهمية فتح طريق الكباش بالنسبة لمصر، وما لفتحه من فوائد ستعود على جميع أهالى الأقصر. كما استفضت فى شرح أسلوب التعويضات الذى سنتبعه، إذ كان مقرراً أن يتم تعويض الأهالى عن الأرض، وعن المسكن، فضلاً عن نقلهم إلى مساكن جديدة، كانت قد جُهزت سلفاً، كجزء من خطة التطوير، وقبل البدء فى تنفيذ عمليات الإزالة. كنا قد بدأنا حوارنا، بعد الانتهاء من صلاة الجمعة، فى حوالى الواحدة ظهراً، وكان بالمسجد نحو مائة فرد، وهى سعة المسجد، فإذا بأعداد الأهالى تتزايد، فانتقلنا بمجلسنا إلى "الديوان"، وهو البيت الكبير فى القرية، الذى يستخدمه جميع أهاليها فى مناسباتهم، أفراحاً كانت أو أحزاناً. وزادت الأعداد المشاركة فى الحوار إلى نحو ألفى شخص. أضافوا إلى الحوار سخونة، فهذا يرفض ترك منزله الذى ولد وعاش فيه. وهذا يرفض ترك منزله الذى به رائحة عرق أبويه وأجداده. وذلك يرفض الانتقال بعيداً عن مقر عمله أو باقى أفراد أسرته. وآخر يرفض قيمة التعويض أو أسلوبه. وهذا يصيح "هتهد بيوتنا ومش هتلاقى تحتها حاجة"! وزادت الأعداد، وزادت الانفعالات، وتعالت الصيحات، وشارك فى الحوار العديد من النسوة، وللعلم، فإن للمرأة الصعيدية مكانة عالية بين أهل الصعيد، على غير ما يصور البعض، خاصة إذا كانت هذه المرأة هى الجدة أو "العمة" كما يطلق عليها. ووجدت نفسى وحدي، أصارع كل هذه الأصوات، والآراء والأفكار، التى أتفق مع بعضها، ولكن المصلحة العامة تقتضى غير ذلك. ومرت ثلاث ساعات أخرى، وصارت الساعة الخامسة مساءاً. ولاحظ، عندئذ، البعض من كبار السن، أن مظاهر التعب والإرهاق قد بدت عليّ، فاقترحوا استكمال الحوار فى يوم آخر، خاصة أن أذان المغرب على وشك أن يرفع، والديوان محجوز لمناسبات أخرى. ركبت سيارتي. والعرق يتصبب من جميع جسدي، وما أن وصلت إلى استراحتي، حتى شعرت بضيق شديد فى التنفس، فاتصلت بأحد الأطباء فى القاهرة، طالباً المشورة، فنصحنى بالتوجه فوراً إلى المستشفى الدولي، وبقى معى على الهاتف حتى وصولى للمستشفى، ليتحدث لطبيب الاستقبال، ويوجهه لسرعة إسعافي. فى تلك الأثناء وصل أمر مرضى للمشير طنطاوي، فأمر بنقلى فوراً إلى القاهرة، وأرسل طائرة عسكرية لتنفيذ المهمة، ووصلت إلى المستشفى فى القاهرة، مع بزوغ الشعاع الأول لضوء الفجر. ومرت عليّ الرحلة طويلة. فبالرغم من أننى ركبت الطائرة الهليكوبتر مئات المرات فى حياتى العسكرية، إلا أن لهذه المرة، تحديداً، وقعاً خاصاً فى ذاكرتي، حفره بها قوة صوت محركاتها ومروحاتها، الذى استشعرت مدى إزعاجه لأول مرة فى حياتي. كان المستشفى مستعدا لاستقبال حالتي، وجاء التشخيص بضرورة الدخول، فوراً، لغرفة العمليات لإجراء قسطرة بالقلب. وبالفعل وصل الجراح، ونظرت إلى وجهه. إنه زميل ملعب كرة القدم! فلقد كان من عادة المشير طنطاوي، بعد الانتهاء من اجتماع مجلس الوزراء، يوم الأربعاء من كل أسبوع، أن نتوجه، مباشرة، إلى الصالة المغطاة، فى الاتحاد الرياضى العسكري، للعب كرة القدم لمدة ثلاث ساعات. كانت تلك الساعات كافية لإخراج كل الهموم، والتوتر، والشحن الانفعالى من العمل طوال الأسبوع. واعترف، بأننى شعرت بالخوف، فى تلك اللحظة، لأول مرة فى حياتي. فلم أشعر بذلك الخوف من قبل، حتى عندما دخلت مستشفى فايد العسكري، أيام نكسة يونيو 67، وأزلت الزائدة الدودية، على أضواء مصابيح الكيروسين. ولم اهتم كثيراً عندما رأيت آثار العملية على جسدي، والتى علق البعض عليهابأن الجرح يشبه ذلك الناتج عن عمليات الولادة القيصرية، وهو ما كان بسبب ظروف الحرب وانقطاع الكهرباء. ولكن اليوم سأجرى عملية بالقلب مع زميلى فى ملعب كرة القدم. ودخلت غرفة العمليات واستسلمت تماماً وأغمضت عيني، متوكلاً على الله. وخرجت منها حاصلاً على عضوية "نادى الدعامات" بعد أن تم تركيب ثلاث دعامات لشرايين القلب المختلفة. عرفت، بعدها، أن طبيبى هذا، واحداً من أبرع جراحى القلب فى القوات المسلحة. وقد جاءنى بعد خروجى من غرفة الإفاقة، للاطمئنان عليّ، فمازحته قائلاً "تلعب كرة، وتعمل قسطرة". فضحك وقال لى "زى ما حضرتك ضابط متميز، وتلعب كرة. أنا طبيب شاطر وألعب كرة برضه". ومنذ ذلك التاريخ أصبحنا صديقين، فهو من اعتمد أوراق عضويتى بنادى الدعامات. عدت بعدها إلى الأقصر، واستكملت مهمتي، وأعدت فتح طريق الكباش بطول 3 كم، ولم يتبق منه سوى 60 متراً، لتكتمل تلك التحفة الأثرية، وتنضم إلى باقى أجزاء الأقصر، أكبر متحفً مفتوح فى العالم، الذى كان بوابتى إلى نادى الدعامات. Email: [email protected] لمزيد من مقالات لواء د. سمير فرج