تأتى ذكرى الميلاد هذا العام فى ظل ظروف استثنائية تعيشها مصر بصفة عامة، والكنيسة المصرية بصفة خاصة، ورغم ذلك نشعر جميعا أن ميلاد السيد المسيح أكبر من أى ألم سببه الحادث الإرهابى الذى تعرضت له منذ أيام الكنيسة البطرسية، وسقط جراءه العديد من الشهداء والمصابين، ورغم قسوة الحادث فإننا نثق أن هؤلاء الشهداء يشاركوننا فرحة الميلاد وهم فى السماء مع الطفل المولود. نحتفل اليوم بذكرى ميلاد السيد المسيح، وبداخلنا المزيج من المشاعر التى كانت موجودة، فمنذ أيام ميلاد الطفل يسوع، إذ يخبرنا البشير متي: «حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدا، فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين فى بيت لحم وفى كل تخومها، من كل سنتين فما دون، بحسب الزمان الذى تحققه من المجوس، حينئذ تم ما قيل بإرميا النبى القائل: «صوت سمع فى الرامة، نوح وبكاء وعويل كثيرا، راحيل تبكى على أولادها ولا تريد أن تتعري، لأنهم ليسوا بموجودين» (مت 2: 16 18) لقد قام هيردوس بهذه المذبحة الجماعية الغاشمة ليحمى كرسيه، بعدما علم من علماء «مجوس»، أتوا ليسجدوا للملك المولود، فذهبوا للقصر باحثين عنه، فقتل هيردوس الأطفال لارتباطهم باسم السيد المسيح، وفى هذا الحديث المشابه لنا عبرة ودرس فى ذكرى الميلاد. المجوس وخارطة الطريق. المجوس هم مجموعة علماء مدربين، لهم خبرة وباع فى معرفة الفلك وأسراره، وحين رأوا فى السماء نجما مجيدا أدركوا أن هذا النجم مرتبط بميلاد شخصى مجيد فلم يكتفوا بمجرد مشاهدة النجم، بل قرروا أن يتبعوه ليقدموا السجود للشخص العظيم الذى ولد، إلا أن أول خطأ وقعوا فيه كان ذهابهم للقصر الملكى فى أورشليم، بدلا من الذهاب لبيت لحم، إذ حدثتهم تخميناتهم الناقصة أن الملك المولود لابد أن يكون فى القصر، لكن بدخولهم القصر، وإعلانهم خبر ميلاد ملك ليس فى قصر هيردوس، شعر الملك أن شرعيته اهتزت، فقام بفعله الباطش. وهنا نقف لنفكر، ماذا لو كان للمجوس خريطة طريق محددة المعالم، تحميهم من القرارات غير المدروسة؟ بالطبع ستكون العواقب مختلفة، فنحن حين لا نضع خريطة طريق محددة المعالم، نضطر للسير فى طرق ضبابية، تصل بنا إلى قرارات قد تكون كارثية، وإن كانت بيننا علاقة حية مع الله، حتما لن نضل الطريق، وسنصل بمعونته وإرشاده إلى ما نصبو إليه. ثمن الشرعية حينما شعر هيردوس الملك باهتزاز عرشه جراء سماعه خبر ميلاد ملك ليس من صلبه، أدرك أن شرعيته فى خطر، فلم يفكر إلا فى حماية هذه الشرعية، وكان الثمن مقتل أطفال بلا عدد، دماء بريئة أريقت ثمنا للشرعية المزعومة، وأمهات كسرت قلوبها، فى سبيل أن تحمى جماعة شرعيتها، إلا أن الشرعية الحقيقية هى التى تبقي. وقد أكد السيد المسيح شرعيته، بأن قدم الحب والسلام للجميع، كما أكدها أيضا من خلال كلمة الله التى شهدت له، وبتعاليمه. الهروب إلى المستقبل أعلنت السماء حمايتها للسيد المسيح، إذ ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلا: «قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبى ليهلكه»، فقام وأخذ الصبى وأمه ليلا وانصرف إلى مصر. (متى 2: 13 15) كان هناك خطر، وكان قرار الهروب لمصر تقديرا جيدا للظروف، إذ كان البقاء ومواجهة عدو مثل هيرودس، سيعد نوعا من الانتحار، حينها كان الهروب إلى مصر هو الخروج الآمن، وهكذا فإن الميلاد يعلمنا متى نهرب، وممن نهرب. إلا أن قرار الهروب لم يكن نهاية المطاف، بل اقترن الهروب بقرار آخر بالعودة، لكن العودة لم تكن لأورشليم، ولا لبيت لحم، بل إلى الناصرة: «فلما مات هيرودس، إذا ملاك الرب قد ظهر فى حلم ليوسف فى مصر قائلا: «قم وخذ الصبى وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي»، فقام وأخذ الصبى وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل، وأتى وسكن فى مدينة يقال لها ناصرة» (متى 2: 19 20، 23) الكثير من القضايا والمشكلات، كان من الحكمة حينها الهروب منها، لكن ليس الهروب حلا فى حد ذاته، ربما تذكرنا هذه العبرة أن علينا العودة والتخطيط للمواجهة المحسوبة والمدروسة بعناية، لطريق العودة من الهروب، وحل مشكلات تراكمت عبر سنين الهروب الطويلة. هكذا، ورغم الأحداث، لا أن تحمل ذكرى الميلاد لنا، فى بداية عام حديد، الأمل والرجاء بأن الغد حتما سيكون أفضل، وأن ما كان الهروب منه قديما إجبارا، اليوم يمكن أن نقف معا لمواجهته، بأن نسير فى خريطة طريق، تقودنا نحو رخاء وسلام وأفراح السماء. ونحن نصلي، لكل بلادنا، أن يعمها فرح الله وسلامه، وأن يحمى كل أرضها، وأن يحل الأمن والطمأنينة على شعبها، وأن يعين قادتها، ويعطيهم الحكمة السماوية لقيادة البلاد، إلى الرخاء الذى نبتغيه جميعا، وكل عام وكل شعب مصر بخير. رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر لمزيد من مقالات القس اندريا زكى ;