فى مسيرة السرد العربى فى مصر علامات تتّخذ من المجايلة رمزا تعبيريا عنها ،رجوعا إلى الدور الفنى البارز للجيل الفنى الجامع لها ولغيرها ،بما أضافوه من إسهامات ،وإضافات تضيف إلى جهود منْ سبقوهم الجديد، ومن هنا كان لنا أن نقول بجيل طه حسين علامة على مجايليه فى زمانه بما أبدعوه من فن قصصى ،وجيل نجيب محفوظ إشارة إلى عطائه ضمْن عطاء أبناء جيله فى مجال الفن القصصي،استيعابا لجهود السابقين ،وتنمية له ،وتفاعلا معه بقدْر التفاعل مع منْ يليهم؛ وصولا إلى جيل فنى سرديّ لاحق برز فى خضمّ تفاعل هذين الجيلين العملاقين السابقين،ووضوح التحدّى الفنّى فى طرائق الإبداع؛ فكان لزاما وواجبا عليه أن يضع فى اعتباره قوة الإشعاع المنبثق من آفاق تلك الأقلام السالفة، ولهذا أثبت وجوده باكرا فى إرهاصات ما قبْل انتصاف القرن الماضى ،وما لبث أن استوى عوده،واستحصد ؛ليؤتى ثماره فى الستينيات من القرن العشرين ، حيث وقف هذا الجيل معجبا بآثار السابقين مستوعبا له ، مقدّرا جهودهم ، مستوعبا ما بلغه الفن القصصى العالمى من درجة من التطور ،صارت إرثا عالميا يمثّل حصادا بشريا وإنسانيا عاما يرتفع فوق الإقليمية والمحلية ، ويقدم فنا إنسانيا يمثل حضارة الإنسان المعاصر ،وكان من أبرز هؤلاء المبدعين ، وألمع أبناء ذلك الجيل «أبو المعاطى أبو النجا» الذى أعلن بشائر نشره سنة 1949على صفحات المجلة الأشهر(الرسالة) لأحمد حسن الزيات حلْم الواعدين الشادين والمشرئبّين آنذاك لفنون الأدب ثم فى مجلة الآداب البيروتية لسهيل إدريس ميدان اللامعين وقتذاك لتصدر له مجموعته الأولى 1961(فتاة فى المدينة) مغتنما ميزة الانتشار خارج مصر،والأهم من ذلك أن المجموعة ظفرتْ بمقدمة نقدية تاريخية بقلم الناقد الجاد الصادق اللامع، أنذاك ، أنور المعداوى ،ويمكن القول ،دون مبالغة ،إن تلك المقدمة النقدية كانت بمثابة حفل التوقيع ،أومراسم حفْل التخرج لموهبة عميقة القرار،متمكنة من أصول الفن وقواعده ،وبذلك ظفر أبو المعاطى بمثل ما ظفر به نجيب محفوظ ، إذا جاز لى التشبيه ،من اهتمامات النقاد ،حين قال :» سيد قطب ،وأنور المعداوى انتشلانى من الظلام إلى النور»،ثم أكمل «أبوالمعاطي»جولاته الفنية بجولة كانت أكثر شهرة،وأعمق أثرا حين جعل الناس يلهثون بعنوان قصته القصيرة الشهيرة.بل الأشهر (الابتسامة الغامضة)1963،لتتتابع عطاءاته الفنية :الناس والحب 1966، والوهم والحقيقة 1974،ومهمّة غير عادية 1980،والزعيم 1981،والجميع يربحون الجائزة 1984،وفى هذا الصباح 1999، وليضيف إلى سرده القصير الجامع بين الواقعية والرمزية سردا آخر يوظف الرؤية التاريخية،أو يقدّم روح التاريخ فى الواقع المعاصر فى روايته التى نافستْ شهرتها شهرة (الابتسامة الغامضة)، ألا وهى رواية(العودة إلى المنفي) 1969،والتى صاغ فيها رؤيته الفنية فى قراءة روح التاريخ فى سيرة عبد الله النديم ،وإسقاطها على الواقع المعاصر ، بما يحققه السرد التاريخى من وظائف رمزية وإيحائية ،ومن هنا نافستْ شهرتها ،لدى القرّاء والنقّاد معا ، قيمة جائزة الدولة التشجيعية 1971،الممنوحة له عنها ،وبها ،ثم كانت روايته الثانية (ضد مجهول) 1975،ماضية فوق الحاجز الوهمى الواقع بين ماهو تاريخى وأسطوري،أو المازج بينهما،وفى ذلك كله رأينا التصوير النابض للمجتمع،وقضايا الإنسان المعاصر، والشخصيات ،وذاتية المبدع المنصهرة فيها مع خبرته الحياتية والعملية المتنوعة بين مصر ، والخليج،أو الكويت على وجه الخصوص، على المستوى الأدبى العملى ،هذا إلى دراساته النظرية النقدية التطبيقية التى تجلتْ فى كتابه (طرق متعددة لمدينة واحدة) فى جانبه التنظيرى لفن القصة القصيرة : بناء ، ونشأة ،وقضايا ، وشكلا ،أو التحليلى التطبيقى للقصص الفائزة فى المسابقة التى أقامتها مجلة (العربي) الكويتية، وما كتبه من نقد قصصى فى كتبه الأخري. وأعثقد أنه بقدْر ما كانت مقدمة أنور المعداوى علامة مضيئة فى تاريخ «أبوالمعاطي» كان ارتحال «أبو المعاطي» بجسده خارج الوطن ، إلى الكويت للعمل هناك ، كان ذلك الارتحال إقصاء وتغييبا لشهرة كاتبنا عن دائرة التذكر والمعايشة لدى فئات عمرية من قراء الفن القصصى ، ومتابعيه ، وبخاصة الشباب؛ فقد حافظنا نحن الشيوخ على القدر الذى نعرفه عن كاتبنا ، ونمّيناه ،بقرْبه الروحيّ مناّ ،برغم بعْده الجسدى عن مصر ،ولم يكن الوضع مماثلا لدى الأجيال الأخرى ، ومن هنا كان هذا التقديم الذى ألخّص القول فيه تلخيصا قدْر ما أستطيع. ونقف أمام قصته القصيرة (ذراعان) من مجموعة (الناس والحب) الصادرة سنة 1966، حاملة خصائص المرحلة وسماتها ؛ لنجد قدرته الفائقة على تجسيد اللحظة ، فى تكاثر ذراتها وتكثّفها معا، وبروز الزمان فى امتزاجه الحتمى بالمكان ،أو الحيّز،كما يقرر الواقع الأدبى والفيزيائى ، معا ، إذْ لا مكان بدون زمان ، ولا زمان بدون مكان ، حين تنْسرب الأحداس من موضع الذراعين لشاب وفتاة يجمعهما مكان هو السينما ، ولا يقتصرالأمر على مجرد تحديد سمات المكان منذ اللحظة الأولى للسرد . بل منذ الجملة الأولى من السرد : « تباعا كانت الأضواء الهادئة تختفى فى حديقة سينما الكرْنك ، وهبّتْ نسمات رقيقة اهتزتْ لها الأشجار». بل يمضى المكان نابضا بحركة الزمان ، زمان العرض السينمائى لجمهور لا يعنينا منه إلا الفتى والفتاة ، واستناد ذراع كل منهما إلى المسند المشترك لكرسيّ كل منهما ، لتلتقى روح الفتى بروح الفتاة ،فى مغامرة زمنية ذات بنْية محددة . هكذا تتكثّف حركة المكان والزمان بقدر ما تتكثف حركة النموذجين البشريين فى تلك القصة ، وحولهما تحوم الحركة الموظّفة توظيفا دقيقا، فى استغلال فنى يقظ للوصف السلس الذى لا يعوق حركة السرد. بل يمضى فى رابطة عضوية ملتحمه، والمشاعر المتنامية المنطقية، والتحليل الذى يستبطن الشخصية الأساسية، فى سمات فنية ليس أهمها التركيز والاقتصاد والتكثيف فحسب .بقدر ما تكون الأهمية القصوى لتلك المقدرة الفنية الفائقة فى الوصف والتحليل دون تعدد للمشاهد ، أوتزاحم للشخصيات ، والأحداث ، ودون الوقوع فى ملل رصد حركة الذراعين ، وفى استبطان أحاديّ لنفسية الراوى والقصة بضمير المتكلم الذى يقدم سردا يتهيأ فيه المتلقى إلى القبول والتصديق لما يحكى ، بفارق واحد هو أن السرد بضمير المتكلم الذى يذيب الراوى فيما يروى ، لا يجعل السرد صادرا من سارد إلى متلق . بل يجعله وصفا لمتلق مشارك معايش ،على نحو يمزج بين الأنا الأولى التى أبدعت السرد ، والأنا الثانية الكامنة داخل العمل الأدبى ،حتى يحقق ما سموه « الرؤية المصاحبة «،الكامنة فى اندماج السارد فى المسرود ،وذلك بفضل القدرة الهائلة على الإبداع المتمثّل فى تجسيد الموقف والحدث دون ترهّل أو إسراف فى حدث يكاد يكون واحدا تتخلله فترة الاستراحة المتّبعة فى العروض السينمائية ومتابعة دقيقة لاستبطان ذلك الطرف الواحد ، وهو الراوى المذكّر، وما دار من حوار ، ووصف تلخصها الجمل : « كانت مشاعرنا مع السر الرقيق الذى تخفيه يدانا المرتعشتان كطائر نخشى أن يموت أو ينفلتْ « ، وكما كانت (الابتسامة الغامضة) فى قصته الشهيرة فيما سبق ، كان ختام تلك القصة فى (التفاتة) : « مرة واحدة التفتتْ جارتى خلفها قبْل أنْ تغلق خلفها باب التاكسى الذى ركبتْه الأسرة أمام «السينما» «. على نحو يلفت الانتباه إلى النهج الفنى الذى ينهجه أبو المعاطى أبو النجا فى سيميائية العنْونة ، حيث يتحول العنوان إلى نص مواز جعل فيما مضى للابتسامة الغامضة كيانا دلاليا لا مجرد كيان لغوى فحسب ،بقدْر ماجعل للذراعين الآن فى هذا السياق كيانا دلاليا يفوق كيانها القائم فى بنيتها اللغوية ،فإذا كان العنوان مختزلا فى جملة أصوات ،فإن مداه فنيا،يفوق ذلك، إذْ يحْمل تموّجات وشلالات تنسال وتسرى فى شكل إشارات تتنوع حسب مستويات اللغة السردية ،وشبكة علاقاتها ، وذلك منذ المستهل إلى الختام، ليصبج العنوان نابعا من الداخل، وليس مفروضا من الداخل .