لا يكاد يمر يوم دون أن يستوقفني أحدهم سائلا إيايَّ عن رأيي في أحوال البلاد، فأقول له إنه لا مخرج منها، ولا حل لها، سوى بالتوبة الصادقة إلى الله تعالى، ثم الأخذ بالأسباب، من اليقين بموعود الله، والعمل المخلص والجاد، مع الاستعداد لما هو آت، بعد مرحلة التغيير، وعدم الانشغال بتفاصيل ما يحدث، على حساب السعي لتغييره للأفضل، ومواجهته بما يليق به من: دَفع، وجَهد، وبَذل. لقد طالبنا القرآن الكريم بأن نكون قوما عمليين في مواجهة المشكلات والمحن، وأن نزداد ثقة في الله تعالى، ثم ثقة في أنفسنا وأدواتنا وقدراتنا، وقال إنه ما يكون من جهد صغير، ولا كبير، يبذله المرء لتغيير واقعه، أو مواجهة آلامه ومتاعبه، إلا كان الأجر الكبير له، مَدخورا، مَذخورا، مَمدودا من السماء، بين يديه، من فضل ربه. قال تعالى: "مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)".(التوبة). سبعة أعمال، ذكرها الله تعالى، في الآيتين السابقتين، وأجزل الثواب لأصحابها، على الرغم من أن بعضها ليس من أعمال المجاهدين، وهو: الظَمأ، والنَّصب، والمَخمصة، بينما بقيتها من أعمالهم، وهي: وطء الأرض، والنيل من العدو، وإنفاق النفقات، وقطع الأرض، "تنبيها على أن تلك الأعمال تجري في الثواب مجرى عملهم، وتأخذ جزاء العمل الصالح، ثم أورد الشطرَ المتبقيَ للوعد بأحسن الجزاء"، وفق مفسرين. والظَمَأُ هو العطش، والنَصَبُ التعب، والمَخْمَصَةُ المجاعة، والموطيء الأرض، و"النيل من العدو": إصابته في أمواله، وأنفسه، وأولاده. ولا تخص الآيتان الأعمال السابقة فقط، باعتبار أن الإنسان يعملها في ساحة القتال، وإنما يتعدَّى ثوابها إلى نظائرها وأشباهها في الحياة العادية للمسلم، مما قد يستخفُّ به، أو يعتبره هينا، أو بسيطا. قال الداعية محمد راتب النابلسي: "لو أن العمل مشروعٌ، وتعاملتَ معه بطريقةٍ مشروعةٍ إسلامية، وابتغيتَ به خدمة نفسك، وكفاية أهلك وأولادك، وخدمة المسلمين، ولم يشغلك عن فرض، أو واجبٍ، أو طلب علمٍ؛ انقلب إلى عبادة". فالعبادة، بحسبه، تشمل: بيتك، وعملك، وعلاقاتك، وحتى لهوك، واللقمة التي تضعها في فم زوجتك. وفي هذا المعنى جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا؛ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ". (رواه البخاري). سبعة أمور هنا أيضا، قد تصيب المسلم، في حياته العادية، عدّدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبَّه إليها، مؤكدا عظم قدرها، وجزيل ثوابها، عند الله، إن كانت النية فيها خالصة له. و"النَصَبٍ: التَّعَبُ.. والوَصَب: الْمَرَضُ اللَّازِمُ. والْهَمَّ يَنْشَأُ عَنِ الْفِكْرِ فِيمَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ مِمَّا يُتَأَذَّى بِهِ، وَالْغَمُّ كَرْبٌ يَحْدُثُ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ، وَالْحُزْنُ يَحْدُثُ لِفَقْدِ مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ فَقْدُهُ". وقول الرسول: "حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"، فيه إشارة نبوية إلى أن الله تعالى، يجازي بفضله وكرمه، الأعمال الصغيرة، بالثواب العظيم، رحمة بنا، وسلوى لنفوسنا، وتحبيبا لنا، في الإقبال على الحياة، بكل لأوائها، وبلائها. وفي الأحوال كافةً يجب أن نتعامل مع ما هو كائن، وليس ما ينبغي أن يكون، فأمره موكول إلى الله، وأن نسجد له، سبحانه، شكرا على السرَّاء والضراءَّ، وأن نسأله عن حياتنا كلها، الأجر والثواب. قال الشاعر بدر شاكر السياب: "لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبدّ الألم.. لك الحمد إن الرزايا عطاء وإن المصيبات بعض الكرم.. ألم تُعطني أنت هذا الظلام وأعطيتني أنت هذا السّحر؟". وقال ابن عطاء الله السكندري: "مَتى أَوْحَشَكَ مِنْ خَلْقِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُريدُ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بابَ الأُنْسِ بهِ". وقال: "رُبَّمَا أَعْطَاكَ فَمَنَعَكَ, وَرُبَّمَا مَنَعَكَ فَأَعْطَاَكَ"[email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد;