تمر هذه الأيام الذكرى الستون لهزيمة العدوان الثلاثي علي مصر، وهي هزيمة أسهمت بلا شك في تغيير وجه الحياة في منطقتنا والعالم من حولنا، كما أنها تلت بأشهر قليلة القرار التاريخي بتأميم قناة السويس فى 26 يوليو من عام 1956 أيضاً، مما أدخل الكثير من التغييرات على معادلات العلاقات الدولية السائدة آنذاك، وفي واقع الأمر فإن تلك الحرب، التي يطلق عليها في الأدبيات العالمية حرب السويس، لم تكن هي وحدها المسئولة عن إحداث تلك التغييرات، بل ربما كانت حلقة مهمة في سلسلة من التطورات منذ الحرب العالمية الثانية أفضت إلي تلك النتيجة، ولعل البعض يتحفظ علي اطلاق لفظ انتصار علي حرب السويس، كما أن البعض الآخر دأب علي ان يطلق عليها وصف هزيمة عسكرية وانتصار سياسي ولكننا ننتمي إلي الذين يرون ان هذا الوصف يبخس حق الشعب المصري البطل، وبصفة خاصة شعب بورسعيد، والذي أصبح يوم 23 ديسمبر هو يوم عيد محافظة بورسعيد سنوياً، وكذلك حق آلاف المتطوعين من مختلف أرجاء مصر ومن مختلف التوجهات الأيديولوجية والانتماءات السياسية،الذين تدفقوا على مدينة بورسعيد الصامدة ومنطقة القناة ومحافظة الشرقية للمشاركة في المقاومة الشعبية التي دعمتها الدولة وأشرف علي تدريبها وتسليحها وقيادتها مجموعة وطنية من رجال الجيش والمخابرات العامة المصرية المنشأة حديثاً في تلك الفترة، لقد سجل هؤلاء جميعاً إنجازاً وطنياً وتاريخياً أسهم بدوره في إدخال حروب المقاومة الشعبية مناهج التدريس، فيما بعد ذلك التاريخ، في العلوم العسكرية والسياسية علي حد سواء. وإذا عدنا إلي تصنيف النصر والهزيمة من جديد، نري أن المحك هنا هو هل مكنت المقاومة الشعبية المصرية المعتدين من تحقيق أهدافهم التي تمثلت في عزل قوات الجيش المصري شرق قناة السويس ثم إبادتها وفي نفس الوقت الاستيلاء الكامل والمؤمن علي منطقة القناة وبالتالي علي قناة السويس؟ بالتأكيد فشل العدوان الثلاثي في تحقيق هذه الأهداف: فقرار الانسحاب المنظم والحكيم والسريع للقوات المصرية من شرق القناة بعد قراءة استراتيجية واعية لتطورات الأحداث آنذاك قطع الطريق علي تحقيق المعتدين لهدف إبادة الجيش المصري وحافظ علي غالبية هذه القوات سليمة مما سمح لها بالمشاركة جنباً إلي جنب مع المقاومة الشعبية، كما أن المقاومة من الجيش والشعب أفشلت خطط العدوان الثلاثي للاستيلاء علي منطقة القناة، وبالتالي علي القناة ذاتها، وكانت المحصلة لذلك هو الحفاظ علي مصرية القناة، وهو الإنجاز الذي حققته مصر بفضل قرار الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بتأميم القناة في 26 يوليو 1956. فمن المؤكد ان أحداً لم يكن يفترض أن مصر وحدها تستطيع إلحاق هزيمة عسكرية بقوات العدوان الثلاثي المدججة بالسلاح بالمعني الكلاسيكي لكلمة النصر، ولكن صمود المقاومة الشعبية والجيش في بورسعيد وعدم تمكين العدوان من تحقيق أهدافه أتاح الفرصة لتحرك عربي وعالمي، فعلي الصعيد العربي، تحركت الشعوب العربية، وبعض الحكومات العربية في الدول التي كانت مستقلة حينذاك، لدعم صمود الشعب المصري ما بين مقاطعة العمال العرب لسفن البلدان المعتدية في الموانى العربية، وتحرك الشارع العربي في غضب ضد الحكومات الموالية للمعتدين أو الواقعة تحت احتلالهم المباشر، ولم يقتصر الأمر علي الشارع العربي بل جرت مظاهرات في الهند وسريلانكا وغيرهما من دول العالم الثالث البعيدة جغرافيا عن الحدث، بما فيها أمريكا اللاتينية، بل وفي أوروبا ذاتها، بما فيها العاصمتان البريطانية والفرنسية، للتضامن مع مصر وشعبها ولمطالبة المعتدين بالانسحاب. وعلي صعيد الأممالمتحدة، صدر قرار يدعو لانسحاب قوات الدول الثلاث المعتدية بعد أيام قليلة من العدوان بفضل جهود دبلوماسية لوزير الخارجية الكندي حينذاك ليستر بيرسون، وبفضل توافق آراء نادر الحدوث في زمن الحرب الباردة بين الموقفين السوفيتي والأمريكي في إدانة العدوان والمطالبة بانسحاب المعتدين، الولاياتالمتحدة من خلال ضغوط علي الدول الثلاث المعتدية والتلويح بتهديدات: فواشنطن كانت تتطلع إلي قيادة منفردة للمعسكر الغربي دون مناوشة من فرنساوبريطانيا، كما لم تكن تبغى أن يوصم التحالف الغربي بأنه مجرد امتداد للاستعمار التقليدي بما يقلل من الدعم له في العالم الثالث،أما الاتحاد السوفيتي السابق فذهب إلي حد إطلاق إنذار علي لسان رئيس وزرائه حينذاك «بولجانين» باستخدام السلاح النووي ضد بريطانياوفرنسا، فموسكو كانت تتطلع لوراثة الامبراطوريتين الاستعماريتين ليس عبر الاستعمار المباشر بل التأثير السياسي وبناء المصالح والاستقطاب لبلدان العالم الثالث في المواجهة الصاعدة مع الغرب. وإذا كان العدوان قد انتهي دون نجاح في النيل من سيادة مصر على أراضيها أو تدمير الجيش المصري أو الاستيلاء علي قناة السويس أو تحقيق مكاسب اقليمية للأطراف المعتدية أو وقف الدعم المصري لثورة الجزائر الباسلة، فإننا يجب ألا ننسي رموز مقاومة الجيش والشعب الذين حملوا أكفانهم علي أيديهم وقادوا أبطال المقاومة من مدنيين وعسكريين، ونذكر منهم هنا الأبطال زكريا محيى الدين وكمال الدين رفعت ومحمود عبد الناصر وأحمد لطفى واكد ووجيه أباظة وعاطف عبده سعد وعمر لطفى وعبد المجيد محمد فريد ومحمد عبد الفتاح أبو الفضل وعبد المجيد شديد وسعد عفرة وسمير غانم ومحمد غانم ومحمود سامى حافظ ومحمود سليمان، وغيرهم مما لا يتسع المقام لسردهم جميعاً هنا، وقبلهم جميعاً يأتي شعب بورسعيد البطل ومن ورائه بقية شعوب منطقة القناة ومحافظة الشرقية وشعب مصر العظيم بأسره الذي بات بعد هذا التاريخ أنشودة للصمود والمقاومة في العالم بأسره. لمزيد من مقالات د.وليد محمود عبد الناصر;