اللغة مكون أساسى من مكونات الهوية، وهذه حقيقة شغلت عددا من المثقفين والسياسيين والإصلاحيين فى الوطن العربي، وعقدت لها مؤتمرات وندوات كثيرة، وكتبت فيها مقالات ودراسات عديدة. إن أول التشريعات التى تحدد فيها الدولة شخصيتها وهويتها هو الدستور، ثم تأتى بعد ذلك بقية التشريعات فى مجالات التعليم والإعلام والثقافة التى يتم بها تحقيق الفلسفة العامة للدولة، وقد أكدت الدساتير العربية جميعها فى بنودها الأولى على تحديد هويتها العربية، وأن اللغة العربية هى اللغة الرسمية للدولة. وهذا يعكس مدى تمسك العرب بهويتهم المشتركة التى توحدهم وتشكل شخصية أمتهم. ولكن هذه الحقيقة لم تخف عن القوى الاستعمارية الساعية لفرض هيمنتها الثقافية والفكرية على المجتمعات العربية، والتى ترى فى اللغة والثقافة والتراث عوامل أساسية لوجود الشخصية القومية وبقائها، فراحت معاول التغريب والغزو الثقافى والاستعمار المعلوماتى تعمل على فصل الأجيال الجديدة عن تراثها الثقافى المدون بالعربية، من خلال »تغريب« الفكر العربى والسيطرة عليه بفكر وافد، وهنا تكمن خطورة التغريب: فى تجريد المجتمع العربى من لغته وثقافته وتراثه وهويته، وخلق عقلية جديدة تميل للغرب وفكره وتصوراته، وتحقر كل ما يخالف ذلك. ولا يخفى على أحد ما تواجهه اللغة العربية فى عصرنا الحاضر من تحديات فى مختلف المجالات: فى التربية والتعليم، وفى وسائل الإعلام والاتصال، وفى البحث والتأليف، وهى تحديات تعكس التأثير السلبى للعولمة والانفتاح المعلوماتي، ومن مظاهر هذه التحديات على سبيل المثال ما بات يعرف بظاهرة الفرانكو آراب: أى كتابة اللغة العربية بحروف لاتينية، وهى احد الابتداعات التغريبية التى لاقت رواجا بين الشباب العربى فى غرف المحادثات على مواقع التواصل الاجتماعى ورسائل البريد الالكتروني. ومن التحديات التى تدعونا للعجب أيضا أن العربية تدرس فى مجتمعاتنا كمادة ثانوية وبطريقة تقليدية لا توائم العمر. فنجدها أقل المواد تحصيلا من قبل التلاميذ علاوة على ضعف مستوى القائمين على تدريسها، إن الطفل ينبغى أن يدرس لغته الأم فى بداية مراحل التعليم درراسة وافية، حتى يتمكن من اجادتها والتعبير بها عن فكره وتصوراته، كما ينبغى أن يتشرب من معلميه حب اللغة والاعتزاز بها والحرص عليها حرصا على كيانه ووجوده. ومن هنا ينبغى أن نسعى جاهدين إلى تنمية وعى الطفل العربى ليعتز بهويته، ويتقن لغته، ويستوعب ثقافته، حتى تتكون شخصيته وهويته العربية. وقد باتت الضرورة ملحة أكثر من أى وقت مضى لتطوير مناهج تدريس اللغة العربية، بحيث يتناسب محتواها مع الغرض الوظيفى للغة، وذلك من خلال تنقية المناهج والمقررات مما تعانيه من قصور فى أهدافها، ومحتواها، وأنشطتها، وطرق تدريسها، حرصا على تمكين الناشئة من مهارات اللغة العربية، واكسابهم المعارف المتصلة بها، وغرس قيم الاعتزاز بها فى نفوسهم لبناء شخصية عربية ذات كيان متميز. إن نهضة اللغة العربية لن تتأتى إلا بنهضة حضارية علمية قوية، وهذا الأمل معقود بناصية المؤسسات اللغوية المتخصصة، وفى طليعتها مجمع اللغة، ودار العلوم وكلية الآداب، والأزهر الشريف، فعلى هؤلاء جميعا يقع الدور الأساسى فى النهوض بالعربية والارتقاء بها وايقاظ النائمين من رقادهم، لتعود اللغة لأهلها لسانا وفكرا وثقافة وأداة تواصل، وفى سبيل هذه الغاية، هناك إجراءات تنفيذية ينبغى أن نعمل جميعا على اتخاذها، منها تطوير مناهج اللغة العربية فى جميع المراحل التعليمية، خاصة المرحلة التمهيدية، وتيسير طرق تدريسها بصورة مشوقة تحبب التلاميذ فى لغتهم وتغرس فى وجدانهم انتماءهم لها، ومن هذه الإجراءات تقويم الاداء اللغوى فى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، ومنها كذلك الاهتمام بالترجمة والتعريب لمعرفة كل ما هو جديد من تقنيات وعلوم. وبعد.. ونحن إذ نحتفل اليوم باللغة العربية، ننادى بضرورة: 1 المحافظة على اللغة لانها محافظة على الهوية والوجود من خلال الاهتمام الفاعل بالنشء لغويا وثقافيا وبالمحتوى العربى على شبكة المعلومات الدولية. 2 مواجهة الهيمنة التقنية بتشجيع الباحثين التقنيين لعمل برامج آلية باللغة العربية لتصبح بديلا عن البرامج الأجنبية، وابتكار برامج جديدة تخدم العلم باللغة العربية. 3 استنهاض الأمة العربية لمواجهة مخاطر الانفتاح المعلوماتى والعولمة الثقافية التى تسعى لمسخ هويتها واذابتها وتبعيتها لغيرها. 4 تصحيح الصورة السلبية التى تصدرها بعض الأعمال فى وسائل الإعلام عن اللغة العربية ومعلمها. 5 الافادة من مكتسبات التقدم التقنى فى الوسائل الإعلامية، خاصة الأقمار الصناعية والقنوات التليفزيونية، والأعمال الدرامية والتعليمية الموجهة للأطفال والناشئة، واستثمارها فى تثقيفهم، وفى تصدير الثقافة العربية. 6 الانفتاح بحرص على الثقافات الوافدة. والافادة من تطورها العلمى والتكنولوجى من خلال خطة تضمن ايجابية هذا الانفتاح وسلامته. لمزيد من مقالات د. علاء محمد رأفت;