حينما نتطرق للحديث عن أصحاب الفكر المتطرف والإرهابي تظهر أمامنا - ولأول وهلة - حوادث الإرهاب ووقائع الإرجاف التي طالت الأمة الإسلامية قبل الإنسانية بإراقة الدماء الطاهرة، وضياع الأموال المحفوظة، وهتك الأعراض المصونة، ودمار العمران والحضارة، واغتيال العلم والعلماء معنويًّا وحسيًّا، وتشويه الصورة النقية لهذا الدين الحنيف، الذي إذا ما خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحدٌ. نعم إنهم قد حادوا عن سبيل جمهور الأمة الأعظم وسوادها الأفخم وتلبسوا بطريق الغواية والهوى، فجلسوا مجالس الحاكم بأمره، يطلقون أوصاف الفسق والبدعة والكفر كأنهم أوصياء على الخلق من دون الله تعالى، ومن ثَمّ فلا يرجى منهم يومًا - ما داموا على ذلك الحال - أن يقدموا خطابًا وسطيًا رشيدًا للإسلام كما أراد الله تعالى وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم وعلمته الأمة وعم البلاغ في العالمين عملا وعلما حتى دخل في قلوب الناس قبل بلادهم، فأسلموا أفواجًا وأممًا شرقًا وغربًا. إن هذا التطرف والانحراف وما نتج عنهما من آثار خطيرة بالأمة أفردًا ومجتمعات إنما يرجع إلى الخلل الكبير في فهم طبيعة هذا الدين وأدلته ومقاصده، حيث اقتطاع الأدلة من سياقاتها وظروفها والابتعاد عن المناهج العلمية المنضبطة المتعارف عليها لدى الأمة سلفًا وخلفًا، وهذا مدخل عظيم للضلال والهوى، فهم يحرفون معاني الوحي من خلال حملهم الأدلة على غير ما أنزلت له، وبذلك يصدق على أصحاب هذا المنهج ما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في وصف الخوارج:«إِنَّهُمْ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (رواه البخاري). إنهم يرفضون مبدأ التعايش والمواطنة ويحاربون المبادرة بالأمن والسلم، بل غالوا فأوجبوا شن الحرب وإعمال آلة القتل والتخريب ضد غير المسلمين في كل مكان، استدلالا بآيات السيف؛ نحو قوله تعالى:«فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد»ٍ[التوبة: 5]. رغم أن هذه الآيات وغيرها جاءت في سياق بيان حكم من نقض العهد وحارب المسلمين وقتلهم وغدر بهم، وليس فيها ما يدعو للقتل على الهوية، فالأصل في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين هو التعايش والسلم وليس القطيعة والحرب، لقوله تعالى:”لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”[الممتحنة: 8]. كما أنهم أطلقوا القول بردة وكفر المجتمعات المسلمة حكامًا ومحكومين بدعوى الاحتكام إلى القوانين الوضعية أو الأعراف والتقاليد، انطلاقا من آيات سورة المائدة:«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»، و«الظَّالِمُونَ»،و«الْفَاسِقُونَ». وهو نظر فاسد، لأنه لم يراع فيه قواعد اللغة ودلالات الحروف والأسماء، فكلمة «من» اسم موصول، وهي للجنس تحتمل العموم وتحتمل الخصوص، فعلى الخصوص فالمراد بها يهود ذلك الوقت النازل فيهم الواقعة، وعلى العموم فلا تقع إلا على إنكار الأحكام جحودًا واستكبارا لا على مجرد ترك بعضها أو مجرد ارتكاب ما حرم الله مع التصديق بصحة هذه الأوامر وضرورة العمل بها. ثم إنه ينبغي أن يُعلم أن معنى تحكيم الشرع أعم من مجرد تحكيم مذهب خاص أو اجتهاد مخصوص، فقد تكون القوانين السارية – وهو الحاصل في بلاد المسلمين- مرجعها إلى اجتهاد معين أو مذهب محدد، فتكون مندرجة تحت المفهوم الواسع للشرع الشريف ، الذي يندرج تحته عموم مذاهب المجتهدين وأقوالهم، وإن خالف ذلك ما يعتقده ويقلده من يتكلم عن تحكيم الشريعة ويدعو إليه. وبهذا البيان المختصر في تفكيك ومناقشة بعض استدلالات أصحاب هذا الفكر المنحرف بآيات القرآن الكريم على اتجاهاتهم وقضاياهم يظهر مدى الخلل في مناهج فهمهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبرز لنا سمات اتباع الهوى في تَسَتُّر هذه التيارات بالأقوال الفاسدة واتخاذها ذريعة لاتهام المسلمين محكومين وحكامًا بالشرك والكفر مع نسبة كل هذه الأفهام المغلوطة إلى الدين وعلمائه. لمزيد من مقالات د. شوقى علام مفتى الجمهورية