إذا كانت العلاقات السياسية بين الدول نتاج أواصر النخب والأنظمة الحاكمة، وإذا كانت العلاقات الاقتصادية انعكاسا للواقع السياسي، فالعلاقات الثقافية بين أى دولتين تدخل ضمن الإطار الشعبى الذى يصبح بعد فترة من الزمن عنصر ضغط على الأنظمة السياسية لتأكيد التقارب بين البلدين. والعلاقات الثقافية بين مصر وغانا إحدى وسائل التقارب بين الشعبين. وكانت محل دراسة للدكتور «أسامة عبد التواب» الأستاذ بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية، لإظهار أهمية دور الثقافة كجسر بين الشعوب. حيث كان لابد من بداية للحديث عن تفاعلات العلاقات الثقافية بين مصر وغانا، والمكون الثقافى للشعبين، ومدى نجاحه فى إقناع كل شعب بقبول ثقافة الآخر؟. وكانت أول نقطة للتلاقى الشعبين الثقافى وحدة الأصل؛ فمعروف أن أصول المصريين ترجع إلى ممالك مصر القديمة، الأجداد الحقيقيون، والحقيقة أن الشعب الغانى يرجع فى أصله الحضارى إلى نفس الممالك المصرية القديمة؛ حيث يرجع أصل أكبر جماعتين فى غانا وهما «الأشانتى The Ashanti»، و«الفانتى The Fanti» إلى شعوب «الآكان The Akans»، وأثبتت البحوث الآثارية أن هناك صلة بين شعوب الآكان فى غربى أفريقيا والممالك المصرية الفرعونية، وتجلت هذه الصلة فى نقوش الآلهة، والشبه الكبير بينها عند الآكان ونقوش آلهة قدماء المصريين، حيث كانت لديهم آلهة الأرض وآلهة السماء، وعبادة الشعبين لقرص الشمس، وأسماء آلهة الشمس مشتركة عند الشعبين، ولم تكن الصلة فى الآلهة فقط، وإنما أيضًا التشابه فى ثقافة الزراعة، وقيمة الأرض الزراعية عند الشعبين، وكذا تشابه الاحتفالات لدى الشعبين مثل استقبال فصول الربيع والخريف، وفكرة البعث والخلود بعد الموت، ووضع الملوك وملابسهم وممتلكاتهم وأسمائهم والعادات والطقوس الجنائزية وطرق الدفن لهؤلاء الملوك. كل هذا أظهر صلة ممالك مصر القديمة بشعب الآكان فى غانا. والواضح أن هذا الشعب هاجر من مصر فى الألف الأولى قبل الميلاد واستقر غربى أفريقيا وبالتحديد فى مكان دولة غانا الحالية. وأكد زعيم الاستقلال «كوامى نكروما» ورئيس وزراء غانا أنه وشعب غانا يحملون لشعب مصر وإسمها شعورًا وحنينًا خاصًا، ولا يعرفون بالضبط أصل هذا الشعور، وأكد «نكروما» أنه مازال يوجد فى غانا من يعتقد بالفكرة القديمة المتوارثة بأن «مصر نزلت من السماء». وهذه الأقوال توارثها الغانيون عن أجدادهم وظلوا يرددونها، لذا رحبوا بزواج زعيمهم «نكروما» من السيدة المصرية «فتحية حليم رزق» التى اشتهرت باسم «فتحية نكروما»، وحين أصبحت «السيدة الأولي» فى غانا أكدوا أنه إحساس مساوى تمامًا لأن تكون سيدة من غانا، وأيضا لا يعرفون سبب هذا الشعور، وطالبت نساء من غانا بجعل يوم زفاف زعيمهم نكروما على فتحية عيدا وطنيا، وإحدى السيدات أرادت شراء فستان العروس المصرية. وظهر هذا الشعور عند زيارة الدكتور نكروما رئيس وزراء غاناالقاهرة فى يونيو 1958، فعند وصول الطائرة فوق الأهرامات المصرية صاح الوفد المرافق فرحًا لرؤيتها، وصل إلى بكاءبعضهم. والنقطة الثانية التى إلتقى عندها الشعبان ثقافيًا كانت شخصية الرئيس جمال عبدالناصر، وتحديدا عام 1956 حين رأوه يحارب من أجل تحقيق الاستقلال الوطنى لبلاده، واعتبروه مُوجِها فكريا وسياسيا لحركة الجماهير، ونظرت إليه شعوب أفريقيا على أنه يخاطبهم، وزعيمهم وليس قائداً للمصريين فقط. ونظر الشعب الغانى لحظة استقلاله إلى مصر وزعيمها بنية التواصل مع الشعب المصرى وزعيمه، وكانت لحظة حب عاشها الشعب الغانى عند تقليد «ملك الأشانتي» «تاج ملك أفريقيا» للرئيس عبد الناصر، ومثَّل هذا التتويج الكثير للشعب الغانى لأنه يدرك قيمة ملك الأشانتي. وكانت نقطة التلاقى الثالثة بين الشعبين، هى شخصية الدكتور «نكروما» رئيس وزراء غانا من 1957 إلى 1960، ثم رئيس جمهورية من 1960 إلى 1966، وكان المصريون قد وعوا اهتمام الرئيس عبد الناصر بالقارة الأفريقية، وأدركوا أن أفريقيا ستكون محورًا مهمًا فى الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، وأيقن المصريون أفريقيتهم بعد وضع كتاب «فلسفة الثورة»، فتتبعوا أخبار القارة، واهتم الإعلام المصرى آنذاك بأخبارها، وبدأوا ينظرون إلى القارة الأفريقية وزعمائها نظرة احترام وتقدير، وفى تلك الأثناء ظهرت غانا على مسرح الأحداث كأول دولة أفريقية مستقلة جنوب الصحراء عام 1957، أى خلال انتصار الإرادة المصرية على العدوان الثلاثى فى معركة السويس، وربط المصريون بين انتصارهم على بريطانيا، وتحرر غانا من الاستعمار البريطاني، وسعد الشعبان بفقدان الأسد البريطانى أنيابه فى شمال شرق القارة، وأقصى غربها بوقت واحد، وأعجب المصريون بشخصية الزعيم الغانى «نكروما» الذى تحدى الاستعمار البريطانى مثل زعيمهم «عبد الناصر»، وتحريره بلاده من قبضة البريطانيين، فارتفعت مكانته عندهم، وشعروا باستكمال نكروما لثأر المصريين. وعندما أعلن أن «نكروما» سيزور القاهرة فى يونيو 1958، أعد الإعلام المصرى حملة دعائية كبيرة للدكتور نكروما، وتحدثت الصحف المصرية عن نظرته للإمبريالية، وأكدت أنه ليس أداة لواشنطن أو لندن، بل زعيم وطنى يريد أفريقيا للأفريقيين، وأشعلت هذه المقالات محبة المصريين للزعيم «نكروما» كبطل قومي، وكانت الجماهير ترحب به فى كل مكان، فخلال زيارته مصانع الحديد والصلب بحلوان أعدوا اللافتات للتعبير عن فرحتهم بوجوده، وكتبوا بعضها ب «الفانتي» لغة الوطنيين فى غانا، ومنها هذه العبارة «Nkrumah Akwaaba Nkrumah Ayekoo». دور الأزهر فى غانا: وكانت بعثات الأزهر أحد آليات الدبلوماسية المصرية فى أفريقيا، وأقدمها، والحقيقة أن دور الأزهر الشريف فى غانا بدأ قبل الاستقلال بفترة كبيرة؛ إذ كان يوجد فى الأزهر الشريف فى النصف الأول من القرن العشرين رواق يسمى رواق البرنية؛ حيث خصص هذا الرواق للطلبة الوافدين من مناطق غربى أفريقيا (ساحل الذهب، والسنغال، وغينيا، ونيجيريا)، وجميع طلاب هذا الرواق درسوا المذهب المالكى وهو المنتشر فى غرب أفريقيا. وكانت من ثمرات ذلك أن أصبح الطلاب الأفارقة الذين تخرجوا من الأزهر دعائم قوية فى توثيق علاقة مصر ببلاد وشعوب أفريقية، واكتسب الأزهر قدسية فى المحيط الأفريقي، ونال المنتسبون إليه احترام الشعوب. وفى غانا قام الأزهر بدور كبير فى العديد من المدارس مثل «المقاصد الإسلامية»، و«جامع الشريف محمد عبده»، الذى أمده الأزهر بالكتب والأدوات، واستطاعت هذه المدارس التغلب على أهم عقبة واجهتها، وهو الاحتياج للكتب الدينية، والأدوات التى تساعدها على أداء رسالتها. التعاون الثقافى بين الدولتين وبالتوازى بدأت العلاقات السياسية بين غانا وإسرائيل قبل استقلال غانا، وهذا الأمر مهد لإسرائيل فرصة التحرك ثقافيًا داخل غانا مبكرًا، وقدمت الحكومة الإسرائيلية المنح للشعب الغاني، واستخدمت الخبرة فى المساهمة بالنهوض الثقافى والاقتصادى للشعب الغاني، لكنها لم تفكر فى إنشاء مركز ثقافى إسرائيلى فى غانا لأنها كانت تعلم جيدًا بأن ثقافتها مزيفة ولن يقبل عليها أحد من الشعب الغاني. لهذا وجدت مصر المجال خاليًا أمامها لإنشاء مركز ثقافى ينشر الثقافة المصرية بين الشعب الغاني، وأثناء زيارة الدكتور نكروما القاهرة يونيو 1958 تم الاتفاق بين الجانبين على إنشاء المركز الثقافى المصرى فى أكرا، وتقرر أن يتألف هذا المركز من مكتبة تضم العديد من الكتب العربية والإنجليزية، وقاعة للمحاضرات، وأخرى للاستقبال، وصالة سينما، وتعيين مدير لهذا المركز فى أقرب وقت، وكان التخوف من وصول هذه الدعاية إلى المناطق الاستعمارية التى كانت لاتزال تخضع للاستعمار البريطانى فى غربى أفريقيا مثل نيجيريا وسيراليون، وأيضًا مناطق الوجود الفرنسى فى غربى أفريقيا، ومناطق النفوذ الأمريكية مثل ليبيريا، لذا أصيبت تلك الحكومات بالذعر وطلبت معرفة الأشخاص والأجهزة ومساحة هذا المركز. وردا على تلك الأسئلة، أكد مدير المركز الثقافى وقتها، أن وظيفة المركز تقديم خدمات مكتبته، ومحاضرات، وحلقات الدراسية، ومعارض فن تشكيلي، وموسيقي، وإصدار نشرة ثقافية تغطى أخبار المدارس والجامعات والمحاضرات والجمعيات، والأخبار الأدبية والإصدارات المترجمة عن الجمهورية العربية المتحدة، وأكد أن المركز كان فيه عشرة آلاف كتاب عند افتتاحه الرسمى 8 يونيو 1959. وأقامت الحكومة المصرية مركزا ثقافيا آخر فى مدينة كوماسى فى غانا عام 1960، ويبدو أن إنشاء هذا المركز كان نتيجة طلب قبائل الأشانتي، وقام المركزان بدور مهم فى نشر الثقافة المصرية، والعمل على إيقاف الدعايات الصهيونية والاستعمارية فيها والتى كانت ضد مصر والعالم العربي. وسعت إسرائيل منذ حصلت غانا على استقلالها مارس 1957، لتثبيت أقدامها فى غانا خاصة وفى غربى أفريقيا عامة، وأوائل 1958 قررت الحكومة الإسرائيلية تخصيص ثمانى وأربعين منحة دراسية لطلبة غانا ليقوم هؤلاء الطلبة بدراسة فن المقاولات، وإنشاء المبانى والمؤسسات الصناعية فى الجامعات الإسرائيلية، وخصصت الحكومة الإسرائيلية أيضًا ثلاث منح دراسية أخرى سميت المنح الخاصة باستقلال غانا، وكانت هذه المنح فى دراسة علم الطبيعة والزراعة واللغة العبرية والتاريخ القديم فى جامعة القدس الإسرائيلية، وأبدت شركة الملاحة الإسرائيلية زيم Zim رغبتها فى منح تسهيلات لبعض الطلاب الغانيين لدراسة الفنون البحرية فى حيفا ولندن،